18/05/2022

دعوة لترك المفاصلة والانفصال عن العالم


الغرض من هذه الكتابة ، هو الدعوة لترك "المفاصلة" كأساس لعلاقة المسلمين فيما بينهم ، وعلاقتهم مع غيرهم. ومعنى المفاصلة هو تحويل فهمك الخاص للدين او الايديولوجيا ، الى حاجز يفصلك عمن يخالفونك في بعض الأفكار او السلوكيات او طريقة العيش.

هذه دعوة تبررها حاجتنا المصيرية للتعلم من الأمم الأخرى. نحن لا نقود العالم ، ولا نستطيع التعلم منه دون تفاعل معه. أضف الى هذا ، ان تطور البشرية يأخذنا للمزيد من التوحد والاندماج ، سواء كنا ركابا في قطار الحياة ام كنا في مقعد السائق. الواقع ان الميل للانفتاح والاندماج هو ديدن الأمم الناهضة ، بينما تميل الأمم المنتكسة والمتخلفة ، للانكفاء على الذات ، لأن نوايا الاخرين مريبة.

شيرين ابو عاقلة (1971-2022)

المفاصلة وكراهة التواصل مع العالم ، لها جذور عميقة في التراث الديني ، وتجسدت في قواعد عقيدية (الولاء والبراء او التولي والتبري) وفي مسلمات عامة (نظير الاعتقاد بان الحق يعلو ولا يعلى عليه ، الذي يفسر بان المسلمين هم الاعلون على اي حال) ودعمتها مأثورات عرقية مشهورة عند العرب (مثل تفضيل جنس العرب ، وبشكل مطلق ، على بقية الأمم) ثم لحقت بكل ذلك احكام فقهية ، اجمع عليها الفقهاء ، نظير اعتبار دية الكافر نصف دية المسلم ، والتمييز في عقوبة القتل بين الاثنين ، وعدم ارث الكافر من مورثه المسلم.. الخ. ووصلت الى حد تحريم بعضهم الترحم على الام والاب والزوج ، ان ماتوا على غير الاسلام.

لعل القراء الاعزاء قد استذكروا الآن الجدل الساخن حول جواز الترحم على الصحفية الفلسطينية "شيرين ابو عاقلة" نظرا لكونها مسيحية. لحسن الحظ فقد اثمر ذاك الجدل عن نتيجة إيجابية ، حيث شجع الكثير من الناس على اعلان تعاطفهم مع المرحومة شيرين ، الأمر الذي جعل مقتلها ثم تشييعها ، حدثا استثنائيا ، وحد قلوب العرب ، على امتداد العالم. وذكرني هذا بما جرى في 2017 حين توفي الفنان الكويتي المعروف عبد الحسين عبد الرضا. في تلك المناسبة أفتى أحد الشيوخ بحرمة الترحم عليه لكونه شيعيا. فرد الناس على تلك الفتوى بعكس ما أراد صاحبها ، وتحولت جنازة الفنان الى استعراض هائل للوحدة الوطنية والتعاطف ، لم تشهد له الكويت مثيلا في تاريخها كله.

غريزة التضامن والتعاطف هي ، على الأرجح ، أعمق العوامل المحركة لميول الانسان الاجتماعية ، وبالتالي رغبته للعيش في الجماعة ، حتى لو كلفه شيئا من ماله او حريته. وهذا هو التفسير الذي اعتمده الفيلسوف المعروف جان جاك روسو ، في معارضته لنظرية توماس هوبز ، التي تعالج حالة المجتمع في المرحلة السابقة لقيام الدولة.

بالعودة الى أصل الموضوع فان المسألة الجوهرية ، ليست الغاء الأحكام التي قامت على أرضية الميل للمفاصلة ، نظير الاحكام التي ذكرتها آنفا ، رغم اني شخصيا وجدتها معارضة لأصل العدالة الحاكم على كل حكم شرعي او وضعي. المسألة الجوهرية هي التفاعل مع المخالفين والمختلفين ، فاما ان نعتبر التواصل غير ضروري ، كما رأى أسلافنا ، واما ان نعتبره ضرورة للتقدم ، بل ضرورة للحياة. اظن ان عقولنا قد اخبرتنا فعليا بالخيار الصحيح. فاذا اعتبرنا التواصل صلاحا لنا وضرورة لحياتنا ، يلزمنا إعادة النظر في الاحكام والرؤى التي وضعت على خلفية الميل للمفاصلة او كانت تخدمه.

المفاصلة واعتزال المخالفين ليست من نوع العبادات التوقيفية ، بل من المصالح المتغيرة بحسب الزمان والمكان ، والتي يصح الاجتهاد في أصلها وفي تفصيلها ، كي تستجيب لحاجات الزمان ومصالح أهله.

الشرق الأوسط الأربعاء - 17 شوال 1443 هـ - 18 مايو 2022 مـ رقم العدد [15877]

https://aawsat.com/node/3651066

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...