‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحلول الميتافيزيقية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحلول الميتافيزيقية. إظهار كافة الرسائل

25/01/2023

كيف تعمل الثقافة الكسولة


تعرضت في مقال الأسبوع الماضي لما ظننته دورا محوريا للثقافة العامة في تحفيز النهوض الاقتصادي او تثبيطه. وأشرت باختصار لرؤية اثنين من الاقتصاديين المعروفين على المستوى العالمي. لكن بدا لي في الأيام التالية لنشر المقال ان بعض القراء صرفوا هذه الرؤية الى معنى معاكس ، مع انه يبدو – في الظاهر - موافقا لها. وقد ذكرني استاذنا د. محمد الرميحي بمقالة سابقة له ، عالجت ذات المسألة من زاوية أوسع. والدكتور الرميحي مفكر سياسي معروف ، واعتبره أبرز الخبراء في قضايا السياسة والتنمية في الخليج العربي.

تحدث الرميحي عن السمات البارزة للبيئة الاجتماعية المثبطة للنهضة ، والعوامل التي تسببت في التعثر او النكوص مرة بعد أخرى ، وهي جميعا ذات صلة بالثقافة السائدة. ويهمني في هذه الكتابة العامل المذكور أعلاه ، أي التصريف الأيديولوجي للمشكلات ، على النحو الذي ظهر في نقاشات الأسبوع الماضي.

والمقصود بالتصريف الأيديولوجي هو تفسير ظواهر اجتماعية او تاريخية بناء على قربها او بعدها عن مقولات أيديولوجية معينة ، او ارجاعها الى التفسيرات الخاصة بتلك الأيديولوجيا. هذا يتضمن – بالضرورة – اغفال العوامل المساهمة فعليا في تكوين تلك الظواهر وتفسيرها العلمي.

من ذلك مثلا ما وصفه د. الرميحي بالغلو الاقتصادي ، أي التفسير الماركسي الذي يرجع كل حراك حيوي الى عوامل اقتصادية ، بما فيها الثقافة السائدة ومنظومات القيم والعلاقات الداخلية ، بل حتى الفكر المدرسي والآداب والفنون ، التي اعتبرها الماركسيون واجهة خارجية للبنية التحتية للنظام الاجتماعي ، أي الاقتصاد السياسي وأنماط الإنتاج. يقول الرميحي ان هذا التصريف قد حول الفكر الى نوع من ميكانيكية اقتصادية ، بدل ان يعرف كنشاط حيوي قادر على ان يكون مستقلا ، وبالتالي ناقدا للوضع الراهن ومشيرا الى المستقبل.

وشبيه للغلو الاقتصادي ، لاحظ الرميحي ما وصفه بالغلو السياسي في التيار القومي ، الذي اعتبر الوحدة العربية شرطا وحيدا او أساسيا لنجاح التنمية الاقتصادية ، ثم اغفل أي عامل لتحقيق الوحدة غير التغيير في النخب السياسية ، أي انه اعتبر هذا التغيير تمهيدا ضمنيا لتحقيق التنمية. وقد رأينا في التجارب العربية كثرة التحولات في النخب ، بشكل طبيعي او قسري ، وكيف ان هذه التحولات افضت الى المزيد من الشقاق والفشل ، بدل الوحدة او النمو. نعلم بطبيعة الحال ان المدافعين عن الرؤية القومية سيشترطون نوعا خاصا من التغيير ، لكن هذا اقرب الى "شرط يوتوبي" منه الى مطالعة واقعية في التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعرفها عالم اليوم.

ويقال الشيء نفسه عن تفسير التيار الديني لمشكلات التخلف السياسي والاجتماعي ، التي اعتبرها انعكاسا للبعد عن الدين الحنيف. وبناء عليه اعتبر تحكيم للشريعة حلا حاسما وفوريا لتلك المشكلات. ونذكر جميعا شعار "الإسلام هو الحل" الذي رفعه التيار الديني في مصر والسودان. ثم راينا مصائر الحل السوداني في الفترة بين 1989 -2019 ، فضلا عما جرى في أفغانستان وايران ، مما لا يخفى على اللبيب.

حشر الحياة في عباءة الاقتصاد عند الماركسيين ، مثل ربط القوميين للتنمية بالوحدة العربية ، وربط الإسلاميين للنهضة بالعودة الى الدين الحنيف ، كلها تصريفات أيديولوجية ، بمعنى انها تنطوي على اغفال للوقائع القائمة وإلغاء لدور العلم الوصفي والتفسيري ، واحالة الواقع بقضه وقضيضه الى صندوق المحفوظات. في هذا الصندوق لا توجد حلول بل قوالب وعباءات ، قادرة على تأطير كل شيء وتغطية كل شيء ، لكنها ليست قادرة على علاج شيء.

علاج المشكلات كلها ، صغيرها وكبيرها ، يبدأ بفهم الواقع واستعمال العلم في تفسيره والبحث عن علاجاته. وقد رأينا ان أولى مشكلاتنا ، بل ربما اخطرها هو هذه الثقافة الكسيحة ، التي تميل بشدة للتفسيرات الجاهزة والمعلبة ، بدل التفكير المتأني واستعمال مناهج العلم في فهم الواقع ومآلاته وعلاجاته. 

الأربعاء - 3 رجب 1444 هـ - 25 يناير 2023 مـ رقم العدد [16129]

https://aawsat.com/node/4117641/

مقالات ذات صلة

ابعد من فيلم الجني ومن لبسه
اختيار التقدم
الجـن سيــد العالم
الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟
حين تكره الدنيا: طريق البشر من الخرافة الى العلم
السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا
شرطة من دون شهوات
المدينة الفاضلة
هذه خرافة وليست عقاب الله
هيروهيتو ام عصا موسى؟
الوحدة الاوربية "آية" من آيات الله
 

11/09/2019

الحلول الفضائية

|| الحلول الميتافيزيقية هي تلك الاجوبة السجالية التي تدعونا للبحث عن الحلول والاجوبة في التراث. هؤلاء يرون التراث دينا من عند الله ، وهو يحوي جوابا لكل سؤال وحلا لكل مشكلة||

قبل سنوات قال سياسي عراقي ان تحقيقا داخليا كشف عن آلاف "الجنود الفضائيين" على قوائم رواتب الجيش. وعلمنا فيما بعد ان المقصود بالفضائي هو الاسم الذي لا مسمى له. فقد يكون اسما لشخص ميت ، أو لشخص لم يولد أصلا.
"الحلول الفضائية" مثل نظيرها العراقي ، اسماء بلا مسمى ، لكنها بالطبع ليست في الجيش. بل في الجدالات اليومية لدعاة الاصلاح الديني.
Image result for mujtahid shabestari
د. محمد مجتهد شبستري
ويغلب على ظني ان كافة القراء الاعزاء يعرفون الحلول والنظريات الفضائية ، ولعل بعضهم يستعملها أيضا. وكنت  التفت اليها حين قرأت للفقيه المعاصر محمد مجتهد شبستري ، حديثا عن "الحلول الميتافيزيقية" ، وهي مرادفة لأختها الفضائية. وتنطبق على قصة رجل جيء به لمحكمة يرأسها عالم رفيع الشأن. فتحدث الشيخ أولا عن عدل الاسلام ، وسبقه للغرب في اقرار حقوق الانسان وضمانه لكافة الحريات الانسانية. لكنه في نهاية الجلسة ، حكم على المتهم بالسجن ، لتأليفه ونشره كتابا يعارض آراء فقهية مشهورة ، ويدعو لاستبدالها بقانون وضعي.
وفقا لتعريف شبستري ، فان الحلول الميتافيزيقية هي تلك الاجوبة السجالية التي تقول انه يتوجب علينا البحث عن الحلول والاجوبة في التراث ، لانه من عند الله ، فهو يحوي جوابا لكل سؤال وحلا لكل مشكلة.
حسنا نحن نصدق هذا.. لكننا نريد ان نراه في ارض الواقع. لسنا بحاجة لمن يخبرنا عن سبق الاسلام للغرب في اقرار الحريات الشخصية ، بل نحتاج للاقرار بحق الاشخاص الذين معنا  في ان يعبروا عن رأيهم ، حتى لو تعارض مع معتقداتنا او فقهنا. نحن ندعو حراس العقيدة الى تبني مبدأ حرية الاعتقاد والعبادة والتعبير عن الراي في الدين وغير الدين ، كي نصدق انهم يؤمنون بما قالوه عن سبق الاسلام الى حقوق الانسان وتفوقه على الغرب في حمايتها. ان حديث القاضي عن عدالة الاسلام ليس سوى حل فضائي لا علاقة له بالواقع أصلا. أما الذي جرى في الواقع فهو ان شخصا عوقب بالسجن دون أن يرتكب جرما ، سوى تعبيره عن رأيه بطريقة متمدنة.
اظن ان الصلة بين الجنود الفضائيين والحلول الفضائية قد اتضحت الآن. فهذه وتلك اسماء وحقائق مفترضة ، يتحدثون عنها ويقيمون لها اعتبارا ، لكنها غير موجودة في أرض الواقع.
لقد ذكرت مثال حرية التعبير  ، سيما نقد الخطاب الديني ، لأنه واضح ومتكرر. ولأن منع النقد مدعوم بفتاوى وروايات.  ولأن اشخاصا قتلوا واخرين سجنوا أو جردوا من حقوقهم المدنية ، بعدما مارسوا ما يفترض انه حق اصلي في التعبير عن الرأي.
لكن عدا هذا فهناك مسالة التجديد ، ومكافحة الفقر ومنع الاستغلال وحماية الضعفاء وقضايا المساواة والعدالة التوزيعية الخ.
والذي ألاحظه ان اصحاب الحلول الفضائية يمارسون لعبة ظريفة: حين تقول مثلا ان المعاملات التي ابتكرها الفقهاء لتحليل معاملات البنوك ، لا تعالج المشكل الاصلي اي الاستغلال ، سيردون عليك بآيات وأحاديث تؤكد على العدالة والرحمة بالضعيف الخ.. فاذا جادلتهم بان هذا مجرد توجيه وارشاد ، وان المهم هو ما حوله الفقهاء الى فتوى او قانون ، أجابوك بأنهم اهل الاختصاص في معرفة النص ، وربما تواضعوا قليلا فقالوا ان تقصير الفقهاء لا يعني قصور الاسلام. لكننا نعلم ان هذه الاجوبة كلها فضائية ، تحاول ابعاد الانظار عن موضوع السؤال الاصلي ، بطرح موضوع جديد ، يحول النقاش الى نقاش حول الاسماء ، بدل الموضوعات والوقائع. هذه ببساطة فكرة الحلول الفضائية.
الشرق الاوسط الأربعاء - 12 محرم 1441 هـ - 11 سبتمبر 2019 مـ رقم العدد [14897]
https://aawsat.com/node/1896956/

مقالات ذات علاقة 
 الحداثة كحاجة دينية  (النص الكامل للكتاب(

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...