المدينة الفاضلة والمجتمع
المثالي هي اجمل احلام البشر وأعلى تطلعاتهم. لكنها في الوقت نفسه سابع
المستحيلات، والسعي وراء المستحيل عبث لا جدوى وراءه. رغم انها مجرد حلم فانها غير
ذات ضرر، بل ربما كان التأمل فيها مفيدا في المقارنة بين واقع الحال وبين المثال
الاعلى. نحن بحاجة إلى نقد متواصل للواقع كي نستطيع تطويره. فالجمود والتخلف يبدآن
في اللحظة التي يقرر الناس انه «ليس في الامكان ابدع مما كان» وانهم قد وصلوا إلى
نقطة الكمال الكلي اي «نهاية التاريخ». إذا كان الامر كذلك فما هي اهمية الموضوع
اذن؟.
تكمن اهمية المسألة في الصور
الاخرى للدعوات المثالية، وهي صور موجودة في مجتمعنا وفي الكثير من المجتمعات
الاخرى، دعوات تصور لاتباعها عالما افتراضيا، خياليا، لكنها تجعلهم يؤمنون بوجوده
المادي أو إمكانية ايجاده. من ذلك مثلا كتاب الشيخ ابو بكر الجزائري «الدولة
الاسلامية» الذي يصور مدينة خالية من العبث والاهواء وأسباب الفحش، هذه المدينة
ليس فيها تلفزيون أو اذاعة بل ميكروفونات تبث القرآن الكريم طوال اليوم كي لا تفوت
الناس فرصة الاستماع إلى كلام الله. وهي مدينة لا تدرس فيها البنات غير العلوم
المتعلقة بتدبير المنزل وحسن رعاية الزوج والاطفال.
اما الاعمال الاخرى التي
تستدعي عمل النساء فتختص بها بنات الفقراء المحتاجات للعمل دون بنات الاغنياء. وهي
مدينة لا يوجد فيها اجنبي أو غير مسلم، وربما لا توجد حاجة للاتصال بالاجانب
والتعامل معهم. كتب الشيخ هذا الكتاب قبل ظهور القنوات الفضائية والانترنت، وقبل
تبلور فكرة العلاقة الحيوية مع العالم. ولو قدر له ان يعيد كتابته اليوم فلربما
غير الكثير. لكنه على اي حال نموذج عن تطلعات مثالية موجودة ولها اتباع في مجتمعنا
وغير مجتمعنا.
. ليست المشكلة في وجود تطلعات من هذا النوع، بل في ايمان اصحابها
بأنها (حق مطلق)، وان على الناس ان يأخذوا به والا وقعوا في الاثم والخطيئة. ويزيد
الطين بلة تحول بعض اولئك من محاولة اقناع الناس باللين إلى التشنيع عليهم وجبرهم
والتفكير في تدميرهم بل والعمل احيانا على تدميرهم. ولو قدر لهؤلاء ان يحصلوا على
مصدر قوة فربما لا يترددون في اختصار الزمن. إن بطلقة واحدة أو قنبلة تنهي مهمة
تحتاج الكثير من الوقت لو اريد انجازها من خلال الجدل والنقاش العقلاني. في العام
1981 أعلن الخميني ما وصف بالثورة الثقافية التي كان اول خطواتها إغلاق الجامعات
من اجل (تطهيرها). وفي 1996 اغلقت حركة طالبان جامعة كابل ومحطة تلفزيونها الوحيدة
وجميع مدارس البنات.
وفي العام 2000 نسفت تمثال بوذا ضمن حركة استهدفت التخلص من
الاثار التي تشير إلى عصور ما قبل الاسلام. وفي العام الماضي، سمعنا جميعا اعلان
تنظيم القاعدة عن اقامة «الدولة الاسلامية في بلاد الرافدين» وتضمن ذلك الاعلان
تجريما لكل من خالف هذه الدولة الافتراضية وهدرا لدمه باعتباره خارجا عن الدين
واجماع المؤمنين. فكان اصحاب هذه الدولة يقولون للجميع البس ثوبنا والا فانت ميت.
هذه الخطوات التي اكتشف اصحابها خطأها لاحقا، تشير إلى نمط من التفكير يزاوج بين
الخيال والحقيقة، كما يزاوج بين الدعوة والجبر.
اشرنا في مقال سابق إلى ان
المثاليين، سواء كانوا وعاظا أو سياسيين أو حركيين أو فلاسفة أو مفكرين أو اتباعا
لهؤلاء واولئك، يتفقون على اعتبار أنفسهم «الفئة الناجية» أو «حلف المطيبين» أو
«جماعة اهل الحق» وان قلوا، وان اراءهم تنطوي على وصف للحقيقة الكاملة. وهم
يتحدثون عنها كواجبات ملزمة لعامة الناس. كما يصنفون الناس إلى صالح وفاسد، من دون
ان يكلفوا انفسهم مشقة سؤال هؤلاء الناس عما إذا كانوا يريدون ذلك أم لا، وما إذا
كانوا يقبلون به أم لا، وما إذا كانوا يفهمونه أم لا.
وكأن عامة الناس قطيع اغنام
يساق من حظيرة إلى مرعى ومن مرعى إلى حظيرة، في اوقات محددة ولاغراض محددة، قررها
صاحب القطيع لغاية في نفسه، أو فهم اتبعه، أو علم ظن انه يملك كماله. يريد
المثاليون السعادة للانسان من خلال ايصاله إلى المجتمع-الحلم. وهذا يقتضي حسب
رأيهم التزام الناس جميعا باستراتيجية العمل التي يفترض ان توصلهم إلى هذه الغاية.
اما من عارض فيعتبر خارجا عن الاجماع ومثيرا للفتنة، ومستحقا للقمع والعقوبة. انها
–بعبارة أخرى– سعادة جبرية يفترض حصولها في المستقبل، وعلى الانسان ان يقبل بها
ويقبل بالوسائل التي توصل اليها حتى لو تحمل بعض الناس أو ربما جميعهم قدرا من
التعاسة والالم في الحاضر. انها اذن سعادة في الحلم ثمنها تعاسة في الواقع.
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070805/Con20070805130119.htm
عكاظ الأحد 22/07/1428هـ ) 05/ أغسطس
/2007 العدد : 2240
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق