||المسألة التي
تثيرها رواية "الخبز الحافي" هي تقلص خيارات الافراد او حتى انعدامها ،
بحيث لا يعود الانسان قادرا على التحكم في حياته او تحديد ما يريد وما لايريد||
كتب الاديب
المغربي محمد شكري روايته "الخبز الحافي" في 1972. لكنه أخر نشرها حتى
1982. خلال هذه السنوات العشر ، ترجمت ونشرت بالفرنسية والانجليزية ، ثم نشرت في
35 لغة أخرى. ربما كان خروج الرواية عن مألوف الكتابة العربية ، عاملا في اشتهارها على مستوى العالم. وهذا لا يقلل – على أي حال
- من قيمتها الفنية الرفيعة ، وما أظهره الكاتب من قدرة فائقة ، في عرض تفاصيل
الحياة اليومية لمجتمع غارق في الفوضى.
أثار اهتمامي في
الرواية تصويرها لاشكالية التصارع بين الغرائز والخيارات العقلائية. وللمصادفة فقد
قرأتها في وقت كان ذهني مشغولا بجدل المفاضلة الشهيرة بين الخبز والحرية ،
وامكانية تحقيق الحرية الفردية في غياب الضرورات الأولية للحياة ، وما يقابلها من
اعتبار الحرية شرطا لتمكين الفرد من اخذ حياته بيده ، بدل انتظار من ينعم عليه بلقمة
العيش.
كانت هذه
الجدالات الفلسفية الطويلة ، ترتسم في ذهني مثل خطوط على سبورة ، وأنا اتنقل بين
صفحات حياة شكري ، التي صاغها كدراما مفجعة في روايته.
اعلم ان معظم الناس سيميل للرؤية القائلة
بان الحرية أمر ثانوي عند انسان جائع. وهي رؤية اتخذها الماركسيون منطلقا للتنديد
بمفهوم الحرية الليبرالي ، مقابل المساواة التي اعتبروها ذروة القيم الناظمة
للحياة الاجتماعية ومبدأ العدالة.
أعلم أيضا ان معظم المدافعين عن أولوية
الحرية ، ينتمون لمجتمعات لم تذق ألم الجوع ، وما يرافقه من شعور عميق بانكسار
النفس وذبول الأمل في الحياة.
القائلون بأولوية الحرية يعرضون بدورهم
أدلة ، يصعب المرور عليها دون تأمل عميق في محتواها. ولعل أبرز هذه الأدلة ، هو
ذلك الذي يربط بين تحرر الانسان وتبلور قابلياته الذهنية. يستطيع الانسان – وفقا
لهذه الرؤية - تدبير حياته اذا تحرر من العوائق التي تعطل عقله او تكبح ارادته. بل
هو قادر على التحرر النهائي من خطر الجوع واحتمالاته. نذكر مثلا ان ملايين البشر فقدوا
حياتهم في المجاعات التي ضربت العالم في القرون الماضية. لكن هذه الظاهرة تقلصت
بشكل كبير في الخمسين عاما الماضية. وكان اخرها مجاعة الصين الكبرى ، التي حصدت 30
مليونا بين 1958-1961. وتقدر "الامم المتحدة" ان المجاعات قد حصدت 75 ألفا من
البشر في كل عام خلال العقود الخمسة الاخيرة. وهذا يعادل 10 بالمئة من ضحايا
السنوات السابقة ، رغم ان عدد سكان العالم يزيد عن ضعف ما كان عليه قبل نصف قرن.
هذا التطور لم يأت بشكل تلقائي. بل نتيجة
لجهود البشر في توفير الغذاء. وهو يؤكد قابلية الانسان لتدبير حياته ، واحتواء ما
يواجه من تحديات ، اذا تحرر ذهنيا وجسديا مما يكبح اراداته او يعطل فاعليته.
الفارق في مستوى المعيشة مثال آخر على كون
الحرية علة للتقدم ، او على اقل التقادير ، كونها عاملا محوريا في الارتقاء
الاقتصادي. حيث نجد ان سيادة القانون وحمايته للحريات العامة ، قاسم مشترك بين
المجتمعات المزدهرة صناعيا واقتصاديا. كما ان ضعف المنظومة القانونية الضامنة
للحريات ، قاسم مشترك بين الاقتصاديات الاقل ازدهارا. ومعنى الحرية المقصود هنا هو
– على وجه التحديد – تعدد الخيارات وحرية الانسان في الاختيار.
المسألة التي تثيرها رواية "الخبز
الحافي" هي تقلص خيارات الافراد او حتى انعدامها ، بحيث لا يعود الانسان
قادرا على التحكم في حياته او تحديد ما يريد وما لايريد. ليس نتيجة للاستبداد ، بل
نتيجة للفوضى وغياب القانون. وتلك قصة أخرى ربما نعود اليها لاحقا.
الشرق الاوسط الأربعاء -
17 جمادى الأولى 1440 هـ - 23 يناير 2019 مـ رقم العدد [14666]
https://aawsat.com/node/1557356/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق