09/01/2019

ما تريد وما يريد الناس



يعتقد توماس ناجل ، الفيلسوف الامريكي المعاصر ، ان السؤال المحوري للفلسفة السياسية ، هو سؤال: كيف نعيش معا في مجتمع سليم. هذا السؤال المغالي في التبسيط ، يراه ناجل من أكثر الأسئلة عسرا في تاريخ الفلسفة والاخلاق. ومن هنا فقد بدأ كتابه الشهير "المساواة والتحيز" بالاقرار بان محور اهتمامه هو تفصيح السؤال وتوضيح اشكالاته ، وليس التوصل الى جواب.
المسألة على النحو التالي: كل فرد يسعى للحصول على ما يراه حقا له او مفيدا لحياته. لكن الانسان لا يعيش في فراغ ، بل ضمن نظام اجتماعي يفرض على اعضائه الالتزام بأعرافه وشبكة علاقاته الداخلية ، مقابل حصولهم على ما يحتاجون. نعلم ان حاجات الافراد تنطوي على بعدين: بعد مادي يتعلق بها فقط ، مثل قيمتها المالية ، وبعد اجتماعي هو جزء من شبكة العلاقات الاجتماعية ، مثل كونها   خدمة عامة او خاصة ، كونها مسموحة او ممنوعة ، كونها محل ترحيب او معارضة من جانب بقية افراد المجتمع.. الخ.
كي تحصل على ما تريد ، يجب ان تاخذ بعين الاعتبار ، الجانب الشخصي في المسألة ، اي قرارك الخاص ، كما تاخذ الجانب غير الشخصي (الاجتماعي او القيمي مثلا).
في العلاقة بين الناس تظهر دائما هذه المعادلة الحرجة: ما تراه حقا او صحيحا او سائغا ، قد يراه بقية المجتمع او شريحة مؤثرة فيه ، باطلا او خطأ او غير مقبول. ابسط الامثلة هنا ارتداء الملابس التي تحبها لكن المجتمع لايحبها.
يمكن للانسان ان يتنازل دائما عن أي مطلب لا يرتضيه المجتمع. عندها سيكون في سلام مع الناس. لكنه لن يكون سعيدا. لأنه ببساطة لا يحقق ذاته في أي شيء. كما يمكن العكس: ان تفعل كل ما يحلو لك حتى لو غضب الناس منك. عندها ستكون غريبا او نشازا في محيطك. وهذا بدوره يحرمك من فضائل الحياة الاجتماعية.
ربما يقول قائل: ان الحل في التوسط. اي ان تقبل بعض ما يريده المجتمع ، وتصر على بعض ما تريده. وهذا حل سهل في الكلام. لكنه عسير جدا في التطبيق الواقعي. لأنك لاتستطيع وضع حد دقيق بين ما يستحق ان تتنازل عنه ، وما يجب ان تصر عليه. كما انك لا تضمن ان المجتمع سيرضى بالقدر الذي تراه مناسبا.
النقطة الأكثر حرجا ، هي حقيقة ان حاجات الفرد تتغير مع مرور الزمن. ومثلها اهتمامات المجتمع ونظام علاقاته الداخلية. ولذا فان ما يحصل عليه الفرد من رضا أولي ، يبقى مؤقتا ، حتى تتغير حاجاته او اهتمامات المجتمع.
دعنا نأخذ مثلا باختيارات الافراد الاخلاقية. يريد الفرد ان يلتزم بنظام المرور ، في مجتمع لا يقيم وزنا لهذا النظام. او يريد ان يحافظ على سلامة البيئة ، في مجتمع لا يعرف البيئة الا كمادة استمتاع واستهلاك. ومثله الفرد الذي يلتزم بقواعد النزاهة في العمل ، في مجتمع يعتبر الواسطة والشفاعة ، امورا محببة ودليلا على "المرجلة". في حالات كهذه ، سيجد الفرد نفسه بين خيارات حرجة ، بين ان يحافظ على خياراته الاخلاقية ، او يحافظ على علاقاته الاجتماعية.
هذه الامثلة والعشرات من امثالها ، تكشف ان السؤال المغالي في التبسيط ، ليس بسيطا في الحقيقة. لهذا ارى ان توماس ناجل كان على حق ، حين قال انه لا يملك الجواب. لان الجواب ليس سهلا على الاطلاق ، وربما لا يكون موجودا اصلا.
الشرق الاوسط الأربعاء - 2 جمادى الأولى 1440 هـ - 09 يناير 2019 مـ رقم العدد [14652]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...