‏إظهار الرسائل ذات التسميات التراث. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التراث. إظهار كافة الرسائل

05/01/2022

مسار التمايز بين الدين والمعرفة الدينية


ثمة بين الناس من يظن بأن أحكام الشرع ثابتة ، لا تختلف بين زمن وآخر. وان ما يقوله فقهاء اليوم هو عين ما جرى على لسان الرسول والصحابة. اما عموم المسلمين فيعرفون بان الأحكام الشرعية والقوانين والقيم والأعراف والتقاليد والآراء ، تتغير بمرور الزمن واختلاف الظروف المعيشية وحاجات الناس.

هناك تفسيرات عديدة تدعم هذه الفكرة ، أبسطها في ظني هو التمييز بين الدين والمعرفة الدينية ، بين النص المقدس وما يفهمه الناس من ذلك النص.

نعلم ان فهم الخطاب الشرعي عملية تفاعلية ، تتأثر بالمجال الحيوي والظرف الاجتماعي الذي يعيشه المكلف ، فضلا عن ذهنية المكلف نفسه. هذه المؤثرات تتغير بين زمن وآخر ، كما تختلف بحسب عوامل البيئة الطبيعية والاجتماعية ، ولاسيما علاقة الانسان بالطبيعة ومدى فهمه لها وتحكمه فيها.

ومنذ البدايات المبكرة لتفكير الانسان في الدين ، كان ثمة تجاذب بين طرفين: طرف يدعو لقبول المعنى المتولد من ظاهر النص المقدس ، سيما النص الصريح المحدد ، وطرف يدعو لتجاوز الظاهر والعبور من اللفظ الى الرسالة المخزونة فيه.

والذي لاحظته خلال سنوات طويلة من البحث والمتابعة ، ان غالبية المهتمين بعلوم الشريعة (بل وحتى عامة الناس) مقتنعون بالرأي الثاني ، أي عبور اللفظ الى ما وراءه. لكنهم عند التطبيق وفي الاستشهاد والمحاججة ، يذهبون الى الرأي الأول. فتراهم يبحثون عن نص صريح ، آية قرآنية أو حديث نبوي ، يقول على وجه الدقة ما يريدون الاحتجاج له او الاستشهاد عليه.

والحق ان هذه معضلة ، أبرز ما يترتب عليها هو إبقاء البحث في النص المقدس سطحيا ، ومحصورا في المجال اللغوي ضمن المنهج القديم.   

قدم العديد من المفكرين المعاصرين محاججات قوية ، على ان الوعاء اللفظي للنص لاينبغي ان يحدد معناه النهائي. وذلك لأن اللغة منتج بشري ، يتأثر – مثل سائر منتجات البشر – بالظرف الموضوعي لصانعه ومستعمله ، أي ما أسماه الفلاسفة التأويليون "الأفق التاريخي" للمتلقي.

من المفهوم ان القرآن قد اوجد حقولا دلالية جديدة للكلمات ، صرفتها الى معان جديدة ، تخدم الرؤية الكونية التي يريد الدين إقرارها كمضمون للعلاقة بين بني آدم والكون الذي يعيشون فيه (تقارب هذه العملية ما يسميه طلبة الشريعة تحويل الحقيقة اللغوية الى حقيقة شرعية). لكن هذا لا يغير شيئا من حقيقة ان لغة الخطاب محدودة بالفضاء الثقافي/الاجتماعي للناطقين بها. وهذا يؤدي – بالضرورة – الى تقييد وتحديد الخطاب والفضاء الذي يتوجه اليه ، كي يمسي مفهوما للمخاطبين به ، والذين يتوقع ان يحملوه الى غيرهم ، اي يعيدوا انتاجه في قالب كلام بشري متوسط المستوى.

الحاجة لتحديد وتقييد الخطاب ، هي التي جعلت نقاط التركيز وطريقة التعبير والأمثلة الشارحة ، مستمدة من البيئة الاجتماعية ، ومتصلة مباشرة بنمط العيش ومصادر الإنتاج والثقافة السائدة في غرب الجزيرة العربية ، في ذلك الزمن على وجه الخصوص.

العوامل المؤثرة على تفاعل المتلقي مع الخطاب الشرعي المذكورة أعلاه ، لا تبقى على حال واحدة. فهي تتحول مع مرور الزمن واتساع الثقافة ، وتوسع الدولة وتزايد الثروة والاختلاط مع أمم جديدة.

تؤثر هذه التحولات في فهم الاشياء والرؤى وفي عملية توليد الأفكار ، وبالتالي في فهم الخطاب الشرعي والموقف من أوامره ونواهيه.

هذا كما أسلفت أحد التفسيرات المطروحة لتحول المعرفة الدينية ، والذي يستوجب تمييزها عما نسميه بالدين او النص المقدس. واظن غالبية الناس يرون هذا التفسير معقولا وطبيعيا ، سواء تعلق الأمر بالدين او بأي جانب من جوانب الحياة.

الشرق الأوسط الأربعاء - 2 جمادى الآخرة 1443 هـ - 05 يناير 2022 مـ رقم العدد [15744]

https://aawsat.com/node/3395821/

مقالات ذات صلة:

 تأملات في حدود الديني والعرفي/العلماني

التدين الجديد

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حلم العودة الى منبع النهر

حول اشكالية الثابت والمتغير

حول القراءة الايديولوجية للدين

داخل الدين.. خارج الدين

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

 الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

 في معنى الوصف الديني

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

المعنى الدنيوي لتجديد الدين

نسبية المعرفة الدينية

نقد التجربة الدينية

 

02/06/2021

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

عمل سيد ولي نصر  عميدا لكلية الدراسات الدولية بجامعة جون هوبكنز في واشنطن. ونال شهرة عريضة عن دراساته المعمقة في تيارات الاحياء الإسلامي ، في الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية. لاحظ نصر ان كافة الجماعات التي درسها ، انطلقت من رؤية تربط النهضة بقراءة جديدة للقرآن الكريم وتراث الجيل الأول من المسلمين.

نظريا ، تبدو هذه رؤية جذابة. فهي تسمح بتصور فاصل معنوي ، بين أصحابها وبين واقع المسلمين القائم ، وما فيه من تخلف ومشكلات. كما انها تربطهم بالجيل الأول من الصحابة الذين لاخلاف على فضلهم ، وهو امر يضفي شعورا بالرضى عن الذات ، بل التفوق على الاخرين. اما نقطة القوة الأبرز في هذه الرؤية ، فهي انسجامها مع اعتقاد شائع بأنه "لايصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" وهو قول ينسب للامام مالك (711-795م). وينصرف في أذهان السامعين الى معنى العودة للكتاب والسنة ، واستبعاد ما قام حولهما من شروح وتفسيرات.

هذه أبرز نقطة في تلك الرؤية ، لأنها تعفي أصحابها من التسليم بأي دليل علمي يعارض اجتهاداتهم. فهي تجعل النص القرآني والنبوي داعما مباشرا لآرائهم. وسوف يقتنع بهذه الآراء غالبية المتلقين ، الذين لاعلم لهم بمنطق الاستدلال وطرقه ، ولا بالفرق بين ادراج آية في سياق الكلام ، وبين كونها دليلا قطعيا على ذلك الكلام.

زبدة القول ان العودة للنص المقدس وإعادة قراءته ، هي القاسم المشترك بين التيارات الاحيائية في الإسلام. وهي تطرح أيضا كجوهر لمفهوم تجديد الدين الوارد في حديث نبوي ، ذكرناه في مقال الأسبوع الماضي.

لكن البروفسور نصر يلاحظ ، بعدما شرح هذه الرؤية ، ان التيارات المعنية أخفقت في تقديم مشروع تجديدي بالمعنى الدقيق ، فأكثرها عاد الى نفس الخطاب التقليدي ، مع تعديلات سطحية. ويلمح نصر الى ان السبب ربما يكون انشغال هذه التيارات بتوازنات القوة ، وحاجتها لمهادنة الجمهور أحيانا ، والتيار التقليدي أحيانا أخرى ، كي تضمن لنفسها مكانا في المشهد الاجتماعي-السياسي.

لكني أميل للاعتقاد بأن التيارات المذكورة ، ومن دون استثناء ، لم تخرج أصلا من النسق الفكري والفلسفي التقليدي ، حتى لو كانت قد استخدامت لغة جديدة او وسائل جديدة.

ان اردت اجتهادا جديدا في النص او سواه ، فيجب ان تقف على  مسافة منه (ربما خارج النسق الذي يتموضع فيه) ثم تقيم محاججة نقدية معه ، وتغفل مؤقتا (على الأقل في مرحلة البحث) جانبه القدسي ، وكونه صادرا عن الخالق او النبي. يجب ان تطلق قدراتك العقلية لمحاولة فهمه ، ثم مجادلته على ضوء منطق العصر ورؤيته المعرفية ، ومن يعرف هذه ويعرف نظيرتها في المدرسة الفقهية التقليدية ، فسوف يعرف أيضا ان الأولى متقدمة على الثانية بمراحل ، وانها تتجاوز كل ما لدى المدرسة التقليدية من أدوات لاستنباط المعرفة او صناعة المعرفة.

امامنا تجربة فعلية في تجديد الفكر ، خاضتها تيارات فيها علماء ومفكرون كبار ، طيلة قرن من الزمن. لكنا نجدهم قد عادوا جميعا الى نفس المعسكر التقليدي الذي تمردوا عليه. وبعكس هؤلاء ، نجحت اقلية من المفكرين في تحقيق اختراقات ، وقدمت فكرا دينيا قريبا من روح العصر. الذي ميز هؤلاء هو خوضهم حوارا نقديا مع النص. هؤلاء لم ينبهروا بأقوال اساطين اللغة ولا رواة الحديث والفقهاء ، بل اختطوا مسارا جديدا حقا ، فقدموا رؤية جديدة.

الشرق الأوسط الأربعاء - 21 شوال 1442 هـ - 02 يونيو 2021 مـ رقم العدد [15527]

https://aawsat.com/node/3004111/

مقالات ذات علاقة

 تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

التجديد القديم واخوه العصراني

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب "الحداثة كحاجة دينية"

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

قراءة أهـل الشك

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

 

26/05/2021

التجديد القديم واخوه العصراني

 

وصلتني من احد الأصدقاء الأعزاء رسالة طويلة ، أرادها ردا على مقال الأسبوع الماضي. وخلاصة الحجج التي ساقها الصديق ، هي ان الدعوة لتجديد الدين ليست جديدة. وقد كتب عنها عشرات الكتب والرسائل. اما الكتابات الجديدة ، فلا تخلو من شائبة الانبهار بالفكر والمدنية الغربية ، فلا يؤمن الخطر من جانبها.

والحق ان ما قاله الصديق لايبعد عن الواقع. ويظهر ان اقدم ما وصلنا من كتابات الاسلاف في هذا الموضوع ، هو رسالة "التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة" لجلال الدين السيوطي (1445-1505م) وقد حققها وطبعها المرحوم عبد الحميد شانوحة (1947-2020) وله عليها تعليقات لا تقل قيمة عن متن الرسالة ان لم تزد. واقتصرت الرسالة على مراجعة الروايات المختلفة لحديث النبي (ص) الذي فحواه ان الله يبعث للأمة على رأس كل قرن من يجدد لها دينها ، والنصوص التي جرت مجراه ، ثم الاقوال المختلفة في تعيين من ينطبق عليه وصف "المجدد" في كل قرن من القرون السابقة.

السير سيد احمد خان 1817م-1898م

واطلعت أيضا على كتاب طريف في هذا الباب ، هو "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي محمد سعيد ، الذي خصص مايزيد عن ثلثي صفحاته لنقد "المفهوم العصراني للتجديد" أي النقاشات الحديثة في الفكر الديني ، الصادرة من خارج المدارس التقليدية ، او التي من داخلها لكنها تأخذ منحى نقديا لمناهجها وثقافتها. وقد سمى تحت هذا الوصف جملة مفكرين ، أولهم سيد أحمد خان ، المفكر الهندي ، ثم محمد اقبال ، الفيلسوف والشاعر الباكستاني ، ثم الشيخ محمد عبده وعلي عبد الرازق ومحمد اسد وعبد الله العلايلي وآخرون.

أقول ان هذا الكتاب طريف ، لأنه اتخذ معيارا وحيدا تقريبا في نقده لما اسماه بالمفهوم العصراني ، هذا المعيار هو خروج الفقيه أو المفكر عن القواعد الموروثة في علوم الدين. بعبارة أخرى ، فهو يعتبر تجديدهم باطلا ، لأنهم أرادوا الانعتاق من التفسيرات القديمة والأفكار القديمة ، أي انهم سعوا للتجديد الفعلي. هذا الكتاب اقرب الى مرافعة ضد الحداثة ، مما هو حول التجديد.

والمشهور بين الدعاة وعامة الناس ، ان جوهر التجديد هو الرجوع لما يسمونه الاصول الصافية ، اي القرآن الكريم والسنة النبوية. وهم يرون ان المشكل هو "علم الدين" اي الشروح والتفاسير والاجتهادات ، التي اعطيناها مرتبة تماثل الدين. فالتجديد عندهم هو ترك تلك الاراء والعودة للأصل.

لكن هذا يقودنا الى مشكل آخر: هل سيكون لكل العلماء المعاصرين حق متساو في العودة للنص والاجتهاد فيه ، ام ان هذا الحق محصور في اشخاص بعينهم او مدرسة بعينها؟.

اذا فتح الباب للجميع (وهو الاكثر معقولية) فكل ما ينتجه المفكرون والعلماء سواء في القيمة ، من أخذ بهذا الاتجاه ومن أخذ بنقيضه ، من اعتمد مناهج البحث القديمة او أخذ بتلك التي تطورت في اوربا. واذا قلنا بان الباب مقصور على العلماء الراسخين في علم الشريعة ، بمعنى ان تفكيرهم الديني بني وتطور في اطار علم الشريعة الموروث ، فسوف يكون العلم الذي يحملونه ، هو العلم الذي نتوقع منهم ان يتخلوا عنه! ، فهل هذا ممكن واقعيا؟.

اردت القول ان مفهوم التجديد هذا ، غير مفيد ولايثمر عن تجديد حقيقي. التجديد بمعنى المزامنة والمعاصرة ، مشروط باجراء مطالعة نقدية في الاصول نفسها ، لاستكشاف الفاصل بين الافق التاريخي للنص ورسالته الداخلية. ولعلنا نعود لهذه الفكرة في قادم الأيام.

الشرق الأوسط الأربعاء - 14 شوال 1442 هـ - 26 مايو 2021 مـ رقم العدد [15520]

https://aawsat.com/node/2992456/

مقالات ذات علاقة

 تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب "الحداثة كحاجة دينية"

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

قراءة أهـل الشك

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

26/12/1994

الـدين والمعـرفة الدينـية

اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى ضرورة التفريق بين الدين (النص الديني) من جهة والمعارف الدينية والعلوم التي تسمى اسلامية من جهة اخرى ، وكان الغرض هو الدعوة الى منهج لقراءة التراث الاسلامي قراءة علمية تؤكد على اصالة النص واوليته ، لكن هذا التفريق لم يرض بعض الزملاء الذين اشاروا الى ان هذا الفصل ينطوي على قدر من التعسف.
الراي شخصي والحقائق الخارجية موضوعية
طريق العلم وقيمته
العلم هو النتائج الظنية او القطعية التي يتوصل اليها البحث والتحليل في موضوع معين نظري أو عملي ، بحيث يستغني العارفون به عن اعادة التجريب والتحليل ، في وقت معين ، وهذا التحديد اشارة الى وثيق الارتباط بين العلم والزمن ، اذ ان تطور الزمن قد يكشف عناصر جديدة ذات صلة بموضوعه ،لم يجر اخذها بعين الاعتبار في التجارب السابقة ، مما يمكن من اعادة التحليل على اسس امتن ، ويوفر الفرصة للتوصل الى نتائج اكثر صمودا عند النزاع .
والتحليل هو اصطناع علاقة بين عناصر اولية هي المعلومات ، بالاعتماد على امكانية مفترضة للتفاعل فيما بينها ، تتوفر في اطار منهج تحليل خاص يقدمه الباحث كمسار واطار لعمله العلمي ، فالمعلومات سابقة على العلم ، ويؤثر وجودها ـ قلة أو كثرة ـ على مستوى العلم الناتج عن التحليل ، ان توفر المعلومات او ندرتها ، تابع لمستوى مايوفره المجتمع من بيئة مناسبة للعمل العلمي ،  ولاسيما الاعتبار الاجتماعي للنشطين في هذا المجال ، ومدى تمتعهم بحرية البحث والتجريب ، ثم التعبير عن النتائج .
حاجات البيئة
وبديهي ان الاعتبار الاجتماعي للعلم والعلماء ، انما تقرر لكون الجهد العلمي واحدا من الوسائل التي يستخدمها المجتمع في انجاز حاجاته ، فالتقدم والرفاهية والقوة لاتاتي الا بتطبيق القواعد والارشادات العلمية ، ولم يحصل في اي ظرف ان تقدم مجتمع من المجتمعات ، دون الاتكال على قواعد العلم وارشاداته .
ومن هذه الزاوية خصوصا ، يمكن استنتاج ان العلم ليس ـ في اغلب الاحيان ـ محايدا ، ان ارتباطه بحاجات المجتمع الذي ينتج فيه ، يجعله خاضعا او ـ على الاقل ـ متأثرا بايديولوجية المجتمع ، بل ربما اصبح العلم في حالات معينة جهازا لصناعة الايديولوجيا المجتمعية ، اذ يحتاج مجتمع معين في وقت من الاوقات ، للاخذ بسلوك جديد او التخلي عن سلوك سائد ، خلافا لمقولات النظام القيمي الخاص به ، وهذا مايحصل ـ عادة ـ في اوقات الشدة أو ظروف التحول الاجتماعي ، فيقوم اهل العلم بوضع قاعدة نظرية لتبرير هذه الحاجة ، ومستلزماتها العملية ، بحيث يجري احلال السلوكيات الجديدة ضمن النظام القيمي للمجتمع كامتداد له ، حتى لو لم تكن كذلك في الاصل ، فيتاح للفرد ان يقوم بالعمل الذي لم يكن معتادا او مصنفا كأحد الافعال الصحيحة ، دون ان يشعر بتأنيب الضمير أو يتعرض لنقد اقرانه في المجتمع ، وقد يستعمل هذا المنهج التبريري لتسهيل انفلات المجتمع ، او القوى الفاعلة فيه ، من النظام القيمي الضابط للسلوك والعلاقات الاجتماعية .
الشيء ونقيضه
 ولايصعب العثور على الكثير من المفارقات المثيرة للدهشة في تاريخنا ، والتي انما وجدت في ظرف كالذي ذكرناه ، كما ان الامم الاوربية ابتدعت مقولة رسالة التنوير ، التي يحملها الجنس الابيض للعالم ، كمبرر لاستعمار البلدان والشعوب الملونة ، التي وصفت بانها في حاجة الى من يهديها طريق التقدم الذي اكتشفه الاوربيون دون غيرهم ، وذلك للخلاص من مشكل التناقض بين دعوة التحرر التي شاعت في اوربا قبيل الحقبة الاستعمارية ، وبين ارادة الاستعمار الذي تبرره  عوامل اقتصادية واستراتيجية ، فاستعمال العلم لتسويغ الاغراض الاجتماعية المؤقتة أمر متعارف ، ولولا هذه الامكانية ربما لم يشعر الناس بحاجة ماسة الى تقدير العلم والعلماء وتقديمهم على من سواهم .
وعلى هذا فمن البديهي القول ان العمل العلمي وماينتج عنه ، غير محايد ولاموضوعي ، في اغلب الحالات ، بمعنى ارتباطه بالمعلومات المفترض حيادها ، دون تاثر بالظرف الاجتماعي الذي يعايشه .
ــ اذا لم يكن العلم محايدا  فهل يمكن القول ان المعلومات محايدة ؟ .
ــ ربما ولكن ليس على الدوام ، فالعناصر التي يجري تحليلها ضمن عملية علمية ، تتضمن ملاحظات مباشرة لوقائع ، اضافة الى نتائج لتجارب أخرى سابقة ، وهي موصوفة بما سبق ذكره ، كما ان تجميع العناصر المشتركة في التحليل ، هو في حقيقته تقرير لموقعها ضمن هذا السياق او ذاك ، وهو يتأثر بخلفية الباحث التي لايمكن ان تكون محايدة ، بالنظر لكونه جزءا من مجتمع له ايديولوجية خاصة أو نظام قيم خاص ، وليس شجرة معزولة في صحراء .
الـــدين
اما الـدين فهو مجموع الحقائـق التي علمها الله سبحانه لخلقه ، على لسان نبيه ، لتمكينهم من حمل الامانة العظمى ، وهي خلافته في الارض  ، ويتضمن قواعد لنظم علاقة الانسان بربه ، وأخرى لنظم علاقته بمن سواه من البشر ، وثالثة لنظم علاقته بالكون المادي المحيط به ، والحقائق الدينية يقينيات ليس فيها جدل ، في صحتها او صلاحيتها ، اذ انها تأتي من عند خالق الكون ، العالم بكل مافيه وكل مايصلحه .
وفي هذه النقطة يختلف الدين عن العلم ، فبينما الدين كامل وحقائقه نهائية ، كما اخبرنا الله سبحانه {اليوم اكملت لكم دينكم } فان العلم لايكتمل ، بل هو في حال تطور لايتوقف ، وكل مرحلة من مراحله تكشف قصور سابقتها .
 العلم الذي نعنيه هو بطبيعة الحال علم البشر ، فعلم الله مطلق وكامل ويقيني ، وهو مالا يستطيعه بشر ايا كان .
المعرفة الدينية
ولذلك ميز علماء المسلمين بين ارادة الله للاشياء ، وقدرة عباده على ادراك تلك الارادة ، وقالوا بوجود عالمين للحكم الشرعي ، اعلاهما عالم التكوين حيث ان لله في كل واقعة حكما ، مطابقا للواقع على وجه اليقين ، وأدناهما عالم التشريع حيث يسعى اهل العلم لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره ، بالاعتماد على ادوات الاستنباط المعروفة ، وهم مع بذل كامل جهدهم لبلوغ الحقيقة ، لايستطيعون القطع بان ماتوصلوا اليه هو عين مراد الخالق سبحانه ، او انه مطابق للواقع على وجه اليقين ، ولذلك عرف بعض الاصوليين الفقه بانه الظن الغالب ، أو القطع بحسب الطاقة العقلية للبشر غير المعصوم ، وهي محدودة على اي حال .
ومن مظاهر القصور في علم البشر ، اختلاف فهمهم للدين وحقائقه ، فالذي وصل الينا على لسان النبي (ص) يتضمن ماهو واضح لايحتاج الى مزيد بيان ، كما يتضمن مالايعرف كنهه غير الراسخين في العلم ، وهو اذن بحاجة الى تفسير وتبيين ، ان اختلاف الناس في فهم مقاصد النص الديني ، هو احد اللوازم القهرية لاختلاف العقول ، وتباين مقادير العلم بين اهل العلم ، وهذا الاختلاف هو الذي جعل العلم ضرورة لفهم الشرع . كما يوضح هذا مكان العلم بالنسبة الى الدين ، فهو يفسره ويبين غوامضه ويفصل مجملاته ، كما يشخص موارد تطبيق كل حكم من أحكامه ، وبقدر مايتطور العلم ترتقي قدرتنا على فهم الدين .
ومنذ البعثة النبوية كان تطور العلوم في مجالاتها المختلفة ، سبيلا للكشف عن حقائق في الدين او سنن الحياة ونظام الكون ، اشير اليها مجملة في النص القرآني او النبوي ، ولم يتح مستوى العلم في ازمان سابقة استيعابها او معرفة تطبيقاتها .
ومن هذا يتضح ان فهم البشر لحقائق الدين رهين بمقدار معارفهم ، ويبقى هذا الفهم قاصرا ، بقدر ما العلم قاصر ، ان قصور العلم هو الاساس في تطوره ، والاعتقاد بهذا القصور هو الدافع الى البحث عن مجهولاته والتعرف على المزيد من دقائقه ، وهو السر في حركته الدائمة نحو الكمال الذي لايبلغه .
نشر في (اليوم) 24 رجب 1415 (26/12/1994)

 مقالات ذات علاقة

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...