يقال ان الأزمات الكبرى هي ام الافكار الكبرى. ويخبرنا تاريخ العالم ان كثيرا من الاختراقات المؤثرة في حياة الانسان ، ولدت في رحم الأزمة. خذ مثلا الطيران التجاري ، الذي أثمرت عنه ابحاث خصصت في الأصل لتعزيز القوات المسلحة ، في خضم الحرب العالمية الثانية وسنوات الحرب الباردة. ومثلها انظمة الاتصالات اللاسلكية ، وشبكة الانترنت التي غيرت حياة العالم كله. وثمة قائمة طويلة من الاغذية والادوية ومواد البناء والنظافة والالكترونيات والمصنوعات الهندسية ، تطورت كلها في ظروف التأزم. ولعلنا نذكر تجربة التعليم والعمل عن بعد ، اعتمادا على تقنيات الاتصال الحديثة ، في ظروف الحصار التي فرضها وباء كورونا على العالم كله. هذا التحول ليس بسيطا ، فقد انتج اقتصادا جديدا وانماط حياة جديدة. وسيبقى مؤثرا لزمن طويل في المستقبل.
حسنا ، ماذا عن الافكار التي لا تتعلق مباشرة
بالتقنية وادوات العيش؟. اعني الافكار الجديدة في الفلسفة والسياسة والأدب وعلوم
الدين والاجتماع.. الخ. هل تخضع لنفس القاعدة ، اعني: هل تشكل الأزمات بيئة خصبة
لولادة الأفكار الجديدة في تلك المجالات؟.
أظن ان الازمة المقصودة باتت قريبة من ذهن القاريء
، اعني بها الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة
وسكانه. خلال الاسابيع الاربعة الأخيرة ، حاولت التعرف على رأي عدد من البارعين في
التحليل السياسي ، فوجدت آراء قيمة ، قد تعارضها او توافقها ، لكنها – بشكل عام –
جديرة بالمناقشة والتفكير ، لأنها تحاول الاجابة على أسئلة هامة ، مثل سؤال: ما هي
نقاط الضعف ونقاط القوة التي كشفت عنها هذه الحرب ، في الموقف السياسي والشعبي.
وجدت أيضا قراءات جادة في التأثير المتوقع للحرب
على نظام الامن الاقليمي ، ومواقف الاطراف الاسرائيلية والفلسطينية من المشروع
المسمى "حل الدولتين"
، وامكانية نيله الدعم الاقليمي والدولي في الاشهر القادمة.
ثمة مسائل حظيت باهتمام أقل رغم اهميتها ، مثل
التحولات المتوقعة داخل حركة حماس ،
واحتمالات الانشقاق في حركة فتح ، نتيجة
التناقض الشديد بين القناعات المؤسسة والموقف الرسمي الحالي. ومنها ايضا انعكاس
الحرب على ميول الاقليات المسلمة في الغرب ، للاندماج في المجتمعات المضيفة او
البقاء على الهامش. وكذا تاثير الحرب على الاقتصاد المحلي في مصر ، وعلى مشروعات الطاقة المخططة شرق البحر المتوسط
الخ. وجدت أيضا كتابات
مفيدة عن اقتصاديات الحصار ، وطب الطواريء ، تحاول الاجابة عن سؤال: ماذا يمكن
لشعب محاصر ان يفعل في ظل الحرب ، وما يترتب عليها من انقطاع للاتصالات واغلاق الحدود.
وذكرني هذا بالنقاشات الواسعة التي شهدناها سنة
2020-2021 حول سلاسل الامداد والتموين
وما واجهته من تقطع بسبب القيود المرتبطة بوباء كورونا
، ومثلها النقاشات الخاصة بالعمل والتعليم عن بعد
، وانعكاساتهما الاجتماعية والاقتصادية ، وحتى تأثيرها على الهوية الفردية
والوطنية.
لقد أتاحت الحرب فرصة ثمينة لطرح آراء غير تقليدية في
قضايا عظيمة الأهمية. لكن معظم تلك الكتابات ضاعت فعلا او ستضيع ، وسط الركام الهائل
من الردود والمجادلات السطحية ، التي تتنوع بين مدائح فارغة وشتائم قبيحة ، لشخص
الكاتب وبلده والتيار الاجتماعي او السياسي الذي يعتقد المجادلون انه ينتمي اليه.
يغريني التشاؤم بالقول ان المجتمع العربي عاجز عن
النقاش العقلاني. ثم يردني عقلي للقول ان التشاؤم طبيعي في ظل الأزمة ، وان
التراجع المتوقع للازمة سيسمح بنقاش مستأنف. على اي حال يهمني ان أدعو القاري وكل
من يتصل به ، الى تجنب الردود الخشنة على الآخرين حتى لو كانوا على الطرف النقيض. النقاش
المنفتح قد يقود الى اختراق في جانب ما من حياتنا. أما الردح والشتيمة والسخرية ، فليس
وراءها سوى ايذاء الذات واثارة الكراهية. دعونا نسمح بمختلف الآراء ، وخصوصا الآن
، فلطالما كانت الأزمات اما للأفكار العظيمة.
الشرق الاوسط الخميس - 25 ربيع الثاني 1445 هـ - 9
نوفمبر 2023 م
https://aawsat.com/node/4657046
مقالات ذات صلة
التعليم كما لم
نعرفه في الماضي
النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما
عرفت