في ماضي الزمان ، كان يقال ان التجربة برهان قطعي على صحة الفكرة/الفرضية او خطئها. وكانت هذه القاعدة جارية في العلوم التجريبية والنظرية على حد سواء. لكن هذه الرؤية خسرت قوتها منذ ان نشر فرانسيس بيكون (1561-1626) كتابه "الاورغانون الجديد". في هذا الكتاب تحدث بيكون عن "اصنام العقل الأربعة" التي تسهم في تشكيل ذهنية الانسان ، وتؤثر بالتالي في فهمه للعالم وفي احكامه.
الواقع ان الفكرة كانت معروفة قبل بيكون. لكن عمله رفع وزنها العلمي ، وأوضح
مبررات ومسارات تأثيرها الحاسم في تفكير الأفراد. منذئذ بات ثابتا في الدوائر
العلمية ان كل تأمل ذاتي ، وكذا التفكير في العالم خارج الذات ، سيكون متأثرا –
بالضرورة – بالصور والقناعات التي سبق ان توصل اليها الانسان ، من خلال تجاربه
الشخصية ، او انتقلت اليه من محيطه ، او اقتنع بها بعد مكابدات فكرية مقصودة.
خلال القرن العشرين ، جرى التركيز بصورة خاصة على التجارب المتعلقة بالعلوم
الطبيعية والتجريبية ، بغرض اكتشاف إمكانية التوصل الى نتائج محايدة ، أي غير
متأثرة بخلفية الباحث الذهنية. وكان الاعتقاد السائد قبل ذاك ان الانحياز الذهني
مقتصر على العلوم الإنسانية دون الطبيعية والتجريبية ، لانها تتكون وتتطور في
الذهن ، بخلاف العلوم الأخرى التي تتكون وتتطور في الخارج ، فلا تتأثر – حسب ذلك
الاعتقاد – بميول الانسان. لكن تلك المسيرة انتهت بتوافق عام تقريبا ، على ان الانحيازات
المسبقة تترك آثارها على كافة الاعمال العلمية ، نظرية كانت او طبيعية او تجريبية.
وقيل ان ذلك التأثير يبدأ منذ الملاحظة الأولية ، ثم المراقبة المقصودة للمواد
الخام والتجارب المعملية ، وصولا الى اعلان النتائج. فحين يبدأ الباحث بمراقبة
المواد الخام او جمعها ، فانه ينطلق من فرضيات خاصة ، متاثرة بقناعات مسبقة. ان
اختيار هذه الفرضيات دون غيرها ، يحاكي في غالب الأحيان ، الميول الرائجة في
الاطار الاجتماعي او الاكاديمي للباحث ، بل وحتى ميوله الدينية والسياسية في بعض الأحيان.
دعنا نأخذ مثالا على هذا بخبير أوكلت اليه مهمة تحليل "ماء زمزم" للتحقق من القول
السائر بان فيها شفاء من الامراض. فاذا كان هذا الباحث مسلما ، فمن المؤكد انه
سيدخل في التجربة بنية إثبات فوائد ماء زمزم ، الطبية او غير الطبية. ومن المستبعد
ان يبدأ باحتمال ان يكون هذا الماء ضارا بالصحة ، أي بعكس الفرضية التي يريد كافة
المسلمين الايمان بها.
حين ينظر الانسان الى شيء ، سواء كان فكرة او مادة او شخصا ، فانه لا يراه
بعينيه بل يراه بعقله. انت تفهم الشيء الذي تراه ، لأنك تصورته سلفا في عقلك ، أي
وضعت اطارا لفهمه واستيعاب معناه. وفي هذا الاطار لا يختلف الباحث في العلوم عن
الشخص العادي ، فكلا منهما يتأثر بمسبقاته الذهنية. ومن هنا فان عدة اشخاص ينظرون
الى شيء واحد ، فيفهمه كل منهم على نحو مختلف ، وقد يستمعون الى الخبر نفسه فيتأثر
به بعضهم الى درجة البكاء ، بينما يقف الآخرون موقف المندهش ، لأن الخبر لم يلامس
قلوبهم او يستثير عواطفهم ، بمعنى انهم لم يدركوا الحمولة التي تنطوي في داخل الخبر
، او ان هذه الحمولة لا تعني لهم شيئا ذا بال.
زبدة القول انك مثلي ومثل كل شخص آخر ، لا تنظر للاشياء نظرة محايدة ، ولا
تفكر فيها متجردا من انحيازاتك. هذه الانحيازات ليست شيئا قررته ، بل هو جزء من
تكوين عقلك ، وقد ترسخ عبر مراس طويل الأمد. ولذا فان ما تعتبره موضوعيا او حقيقة
واضحة ، ليس – في الواقع – سوى تصوراتك الشخصية التي البستها تلك العباءة.
الأربعاء -
11 جمادى الآخرة 1444 هـ - 04 يناير 2023 مـ رقم العدد [16108] https://aawsat.com/home/article/4078766/
مقالات ذات صلة