معظم
الاخبار تثير التشاؤم. لكن اصدقاء كثيرين اخبروني انهم سهروا طيلة ليل الاحد
الماضي "لأن الأخبار السارة تحلو طازجة". مساء الرابع من نوفمبر2017 لم يكن
اعتياديا في المملكة. القرارت الملكية الخاصة بمكافحة الفساد ، اطاحت بالسد العالي
الذي ظننا ان بلوغه مستحيل. دعنا نعود قليلا الى الوراء ، الى العام 2011 حين أعلن
المرحوم الملك عبد الله عن تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد
"نزاهة". يومها قال الملك ان الهيئة ستراجع شبهات الفساد في كل القطاعات
الحكومية ، ولن تستثني من ذلك احدا "كائنا من كان".
يعرف
السعوديون "كائنا من كان" ويعرفون ان الامساك به ليس سهلا كالحديث عنه. لكن
السعوديين متفائلون بطبعهم ، ولذا ظنوا ان الأمر لم يعد في عداد المستحيلات.
في
العام 2013 رافقت عددا من رجالات البلد الى اجتماع برئيس "نزاهة"
الاستاذ محمد الشريف ، غرضه البحث في دعم المجتمع لجهود الهيئة. وجدت الشريف
متفائلا ومشجعا ، وطرح العديد من الافكار القيمة. لكن رفاقي شعروا في نهاية
الاجتماع ان "كائنا من كان" لا زال بعيد المنال. وتساءلنا: هل يمكن
تنظيف السلم من أسفله؟.
مرت
الأيام ، وبدأنا نرى ما يشير الى ان "كائنا من كان" لم يعد محميا بشكل
مطلق. لكن الاشارات تبقى اشارات ، تخبرك عن اتجاه الطريق ولا تذهب اليه. ليلة
الرابع من نوفمبر علمنا ان "كائنا من كان" بات خبرا. تذكرت وقتها قصة
الاسكندر المقدوني ، الذي طلب من مساعديه تفكيك العقد الكثيرة في حمائل سيفه. فقضوا
ساعات يحاولون من دون نتيجة. عندها أخذ الاسكندر خنجرا وضرب العقدة ، فشقها وانهى
المهمة التي أعجزت الآخرين.
لم
تكن المهمة اذن مستحيلة كما ظننا. لكنها – على أي حال – احتاجت الى مبادرة من فوق.
وهذا ما حصل في تلك الليلة التي لن تنسى.
حسنا..
لقد بدانا في المسار الصحيح ، اي تنظيف السلم من فوق. لكن الفساد ليس حالة ساكنة ولا
حدثا معزولا. نعرف من الابحاث ومن التجربة الفعلية في بلادنا وغيرها ، ان الفساد
لا ينتهي بقرار ، وان الفاسدين لن يموتوا فجأة. ولهذا فالقوانين والاجراءات
والمؤسسات التي تستهدف الفساد لا تدعي انها ستنهيه تماما. بل تركز على تضييق سبله
وجعله مكلفا جدا لأصحابه ، كما تسعى لاشراك المجتمع في الحرب عليه.
المنظور
الحديث لمكافحة الفساد جزء من مفهوم "الحكم الرشيد" الذي يهتم بالاجراءات
المعيقة للفساد ، وليس الوعظ والتوجيه. وتندرج هذه الاجراءات تحت العناوين
التالية:
1-
الحاكمية
المطلقة للقانون ، حيث لا يمكن لموظف رسمي ان يفعل شيئا دون الاستناد لقانون معلن.
وحيث يتساوى الناس جميعا في الخضوع لنفس القانون. إضافة الى الحماية القانونية
للموظفين والاشخاص الذين يأبون المشاركة فيما يظنونه فسادا او يكشفون عن شبهات الفساد.
2- الشفافية ، حيث يجب السماح دائما بالاطلاع على
البيانات الخاصة بالتعاملات الرسمية لفحص احتمالات الفساد.
3- اعتبار الفساد جريمة شخصية ومحاسبة كل موظف للتستر
او الاهمال المؤدي للفساد.
4-
مشاركة
المجتمع ولاسيما الصحافة في مراجعة التعاملات التي تجريها الهيئات الرسمية ،
وحمايتها من المساءلة او الايذاء او التمييز السلبي حين تكشف عن شبهات الفساد.
زبدة
القول اننا نسير الآن في الطريق الصحيح. لكن مكافحة الفساد ليست مهمة مقطوعة ، بل
عمل متواصل ، يتوقف انجازه على ترسيخ القواعد القانونية والمؤسسية التي تجعل
الطريق اليه ضيقا ومكلفا ومكشوفا أمام الجميع.
الشرق
الاوسط الأربعاء - 19 صفر 1439 هـ - 08 نوفمبر 2017 مـ رقم العدد [14225]