يمتد طريق الخليج نحو أربعة أميال محاذيا للساحل. حتى عام
٢٠٠١ كان الناس يسمونه ''الكورنيش''، حيث أقامت البلدية ملاعب للأطفال وزرعت رصيفه
الواسع المطل على البحر. وكنت تجد في أي مساء عشرات من العائلات وأطفالهم يقضون
وقتا ماتعا بين البحر والشجر، لكن هذا الطريق الجميل لم يعد كورنيشا كما أراد
الناس. في يوم عادي لا يختلف عن سائر الأيام ، وصلت عشرات من شاحنات الرمل وبدأت في
دفن ما كان يومئذ بحرا.
الكورنيش الذي سعد به الأطفال سنوات، أصبح طريقا داخليا
محصورا بين أتربة الأرض المدفونة شرقا والسيارات المسرعة غربا. دهش الناس لمشهد
الدفن، فالمنطقة مصنفة رسميا كمحمية طبيعية - هذا ما يتداوله الناس على الأقل -
وثمة أمر ملكي بمنع الدفن فيها. وثمة بين الأهالي من يقول إن مصائد السمك القريبة
من الساحل هي أملاك للصيادين، طبقا لتقليد قديم يسمح بحيازة جزء من الفضاء البحري،
لكن شاحنات الرمل والجرافات لا تفهم التقاليد ولا تهتم بالسمك.
تحدثت
يوما مع مسؤول في البلدية عن حدود مسؤوليتها عما جرى، فأجابني، وعلى وجهه سحابة
خجل، بأن الأمر لا يتعلق بتقصير من طرفهم. لم يتقدم أحد للبلدية طالبا رخصة دفن
حسب مقتضى القانون، بل إن ما يسمونه اللجنة الرباعية التي تفصل في قرارات دفن
السواحل ، لم تجتمع لهذا الغرض أصلا. بكلمة أخرى فقد كان ثمة يد قوية تجاوزت القانون
ومنفذيه، وفعلت ما شاءت دون وجل.
حسنا
.. هل على البلدية أن تتخذ إجراء؟
يقول
المسؤول إياه إنه كتب لرئيسه فأجابه شفهيا: ''إيش بيدنا''.. هذا الموضوع فوقي
وفوقك.
سألت أحد السكان المجاورين: هل فعلوا شيئا؟ فأخبرني أن جماعة من المهتمين
خاطبوا هذه الجهة وتلك، فما حصلوا على جواب. معظم الناس يعرفون هذه القصة ، وكثير
منهم يعرف العشرات من أمثالها، مما ينبغي أن يصنف في الأوضاع العادية في خانة
الفساد والاستيلاء على المال العام. لكن لا أحد يأخذ الأمر إلى نهاياته الطبيعية،
أي التحقق مما إذا كانت القصة فسادا حقيقيا أو مجرد ظنون، ثم الضرب على يد
الفاسدين والمستفيدين من الفساد.
أظن
أن أكثر التجاوزات على المال العام جرت على هذا النحو: شخص ذكي أو نافذ يواجهه موظفون
ضعفاء أو خائفون ، ومجتمع محبط أو متساهل.
لو ذهبت إلى الشخص الأول ''صانع المشهد''
وسألته لأجابك ببساطة: إيش دخلك؟ ولو سالت موظف البلدية أو موظف أملاك الدولة
لأجابك: إيش دخلني؟ ولو تحدثت مع الصحافة لقالوا لك: لا نستطيع التدخل.
أطرف
الأجوبة التي سمعتها هي قول أحدهم: هذي أملاك الحكومة، لا هي إرث أبي ولا أبيك،
الحكومة ترى وتسمع، ولو أرادت منعه لفعلت. هذا الجواب يلخص فلسفة ''إيش دخلك''،
ومعناه أن المواطن لا يصنف نفسه كجزء من منظومة الحفاظ على ثروة الوطن ، ولا كشريك
في نظامه الإداري والقانوني.
لا
نستطيع اجتثاث الفساد طالما بقيت ثقافتنا فاسدة، الثقافة الفاسدة هي ببساطة تقبل
التعامل مع الفساد باعتباره وضعا طبيعيا ، أو باعتباره مسؤولية الآخرين. الثقافة
الفاسدة تنظر إلى الدولة والمجتمع كعالمين منفصلين: أحدهما له دخل والآخر لا دخل
له.
بسبب
الثقافة الفاسدة يميل الإداريون إلى كتمان حوادث الفساد. وبسبب الثقافة الفاسدة
يعتقد الناس أن تدخلهم ليس موضع ترحيب، ولن يكون مؤثرا، وبسببها لا يخجل موظف من
مخاطبة مواطن ''يا ملقوف .. أنت إيش دخلك؟''.
الاقتصادية
6 اكتوبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق