06/03/2012

عسر القانون كمدخل للفساد الإداري

الملف الثقيل الذي حمله المحامي المتدرب إلى مكتب وكيل الوزارة ، كان يستهدف فقط وفقط إقناع أحد موظفيه بأن المعاملة التي استغرقت ثلاثة أشهر ، مكتملة، ولا تنقصها سوى ورقة وحيدة تحتاج إلى توقيع صاحب المعالي. نظريًّا لا علاقة لذلك الموظف بأي ورقة أخرى سوى هذه، لكنه أنفق ساعات في مطالعة كل الأوراق، وقدم سلسلة اعتراضات من بينها مثلاً اعتراض على موافقات وزارات: التجارة، العمل، والبلدية. ستمر ثلاثة أشهر أخرى وربما أكثر قبل أن تنتهي الدوامة.

القيمة الاقتصادية للساعات التي أنفقها الموظفون والمراجعون على هذه المعاملة الصغيرة تقدر بآلاف الريالات. في القطاع الخاص، تنجز معاملات مثل هذه بالتراسل الإلكتروني والبريد، وربما لا يستغرق إنهاؤها بضع ساعات. نحن اليوم ننهي تعاملات بعشرات الألوف دون أن نغادر مكاتبنا، ومن دون تفريط في ميزانياتنا وساعات عملنا.. فلماذا لا تستطيع الإدارة الحكومية أن تفعل الشيء نفسه؟

الزميل الدكتور فهد الشثري (''الاقتصادية'' 3 مارس) يعتقد أن المشكلة تكمن في تدني كفاءة الموظفين، ويرجع هذا إلى ضعف الأجور في القطاع العام، لكني أجد أن موظفين مماثلين في القطاع الخاص برواتب مماثلة وربما أقل، يعملون بكفاءة أكبر، ينجزون أعمالاً أكثر وبتكاليف أقل.

أظن أن المشكلة تكمن في الفلسفة التي يقوم على أرضيتها التنظيم القانوني، ولا سيما اللوائح الخاصة بتسيير المعاملات والحقوق المتبادلة بين الإدارة والمراجعين.

الذين يضعون القانون ينطلقون من إحدى فلسفتين: مضمون الأولى أن غرض القانون هو التوزيع المنصف للخدمات العامة وتسهيل حياة الناس. ومضمون الأخرى أن غرض القانون هو منع العابثين وتضييق الخناق على أصحاب النوايا السيئة.

قد تبدو الفلسفة الثانية جذابة، لكنها خيار سيئ. لو سألنا أنفسنا: هل تريد أغلبية الناس العيش بسلام تحت مظلة القانون أم تشغل نفسها ليلاً ونهارًا بالتفكير في منافذ للتهرب من القانون وإفساد حياة الآخرين؟ بعبارة أخرى: هل الخير والسعي له هو الطبع الأولي للإنسان، أم أن الشر هو الطبع الإنساني الأصيل والأول؟

الذين درسوا في الغرب يعرفون أن معظم المعاملات تتم بالبريد والهاتف، وأنك لا تحتاج إلى مراجعة أي دائرة حكومية إلا نادرًا. وأذكر شخصيًّا أنني احتجت إلى الذهاب إلى دوائر حكومية مرتين فقط خلال ست سنوات من الإقامة في لندن، إحداهما لتسجيل بصمات اليد، والأخرى لتسلم شهادة ميلاد.

السر الكامن وراء سهولة المعاملات هناك هو إيمان واضعي القانون بخيرية الإنسان، وبأن وجود عدد من الفاسدين والعابثين لا يستحق تعسير حياة الأغلبية الخيرة، لذا فهم يهتمون بتسهيل القانون وجعله مرنًا وغير مكلف.

القانون المرن يشجع الجميع على الالتزام، والقانون العسير يضطر الناس إلى البحث عن طرق للالتفاف عليه. القانون الواضح المرن يقلل التدخل الشخصي للموظفين في كل صغيرة وكبيرة، ويقلل الحاجة إلى المراجعات المكلفة وقتًا ومالاً. والقانون العسير يفتح الباب لكل موظف كي يستعرض سلطاته، وقد يجبر المراجع على اتباع طرق ملتوية.

أول الطريق لاجتثاث الفساد الإداري هو إصلاح القانون ولوائح العمل، وبالتحديد إقامتها على فلسفة تستهدف تيسير حياة الأكثرية الخيرة، وليس تضييق السبل أمام العابثين.

مقالات ذات علاقة

 

ابعد من فيلم الجني ومن لبسه

أم عمرو وحمار أم عمرو

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

التعسير على المواطن فساد أيضا

حتى لا تكون الادارة الحكومية عش دبابير

حياتنا مليئة بالأسرار

الخجل السياسي وتطبيقاته

الخطوة الأولى لمكافحة الفساد.. تيسير القانون وتحكيمه

خطوط الانكسار

سيادة القانون ورضا العامة

صيانة الوطن في سيادة القانون

الطريق الى 2030

عسر القانون كمدخل للفساد الإداري

فاتورة الوزير

فضح العيوب واستنهاض المجتمع

قصة "كائنا من كان"

قليل من صور الفساد

كي نقتلع شبكات الفساد

المجتمع السري

من أبواب الفساد

نبدأ حيث نحتاج

نقاط الاحتكاك بين المجتمع والدولة

واتس اب (1/2) أغراض القانون

واتس اب (2/2) عتبة البيت

يا ملقوف ايش دخلك

 

 


جريدة الاقتصادية 6 مارس 2012 http://www.aleqt.com/2012/03/06/article_633594.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...