05/11/2010

كي نقتلع شبكات الفساد


 قصة القاضي المسحور بالمدينة المنورة وقصة مدير التعليم الذي كشف التحقيق عن شطارته في الانتدابات (عكاظ 24-5-2010) وقصص ابطال كارثة السيل في جدة .. وغيرها من القضايا.. تشير الى ان الفساد لم يعد حدثا استثنائيا ، بل ربما امكن وصفه بالظاهرة.


التصدي لظاهرة الفساد يتطلب: أ) التمييز بين البيئة القانونية والادارية المحفزة للفساد ، وتلك المعيقة له. ب) التمييز بين الرادع النفسي للفساد مثل التقوى وخوف الله ، والرادع الخارجي مثل خسارة الوظيفة والسمعة والحرية. ج) التمييز بين الوسائل الادارية الرسمية لمنع الفساد مثل المحاسبة والتحقيق ، والوسائل غير الرسمية مثل الصحافة والراي العام.

تصبح البيئة الادارية محفزة للفساد اذا كانت مغلقة. عدد قليل من الاداريين يملكون صلاحيات واسعة وعلاقات شخصية او تجارية راسخة تولد "الامان" من المحاسبة او التدقيق او العقاب ، ويؤلفون فيما بينهم ما يشبه المنظمة السرية التي غرضها التحكم في مداخل ومخارج المال والمصالح الاخرى، ويختارون للوظائف القريبة الاشخاص الذين يثقون بهم ويأمنون جانبهم. كل عضو في هذه المنظمة يأخذ نصيبه ويحمي الاخرين ، فكل منهم صاحب مصلحة وكل منهم متورط ايضا.

اعتقد ان مثل هذه المنظمات هي الخطر الاكبر على سلامة النظام الاداري وعلى الامن والسلام الاجتماعي. لانها تشكل ما يشبه اعصارا معاكسا داخل تيار التنمية والاصلاح والخدمة العامة. وعلاجها عسير ، لكنه ممكن اذا طبقنا مبدئين: الاول هو الانفتاح الاداري الذي يعني اولا وقبل كل شيء الشفافية وتمكين الراي العام من الاطلاع على التفاصيل الخاصة بالتوظيف وانفاق المال ، والثاني : الحماية القانونية للشفافية والانفتاح.

امامي نموذجان : سيدة تعمل في احدى الوزارات وافقت على الحديث لمسؤولي هيئة حقوق الانسان حول تجاوزات في ادارتها وكشف التحقيق عن تورط اداريين اعلى درجة . حين انكشف الامر ، عوقبت السيدة بتخفيض مرتبتها وحرمانها من بعض الميزات الوظيفية. ومع انها خاطبت العديد من المسؤولين ، الا انها قوبلت بالتجاهل ، وربما قيل لها احيانا انها تجاوزت عرفا سائدا يقضي بان "كل واحد يشوف شغله" ولا يفتح عينه على اعمال الاخرين.

النموذج الثاني : مجموعة موظفين يحملون درجات علمية رفيعة اكتشفوا ان التقارير التي تصدرها ادارتهم بناء على ما يعدونه من بحوث تتضمن تغييرا في الارقام والنتائج كي تعطي صورة اجمل عن عمل الدائرة. حين اعترضوا ، قيل لهم ايضا "شوفوا شغلكم ولا تتدخلوا فيما لا يعنيكم". الذين جادلوا كان مصيرهم التجميد او ا ضطروا للانتقال الى وظائف اخرى.

هذه الحوادث ليست فردية ، فلولا وجود بيئات مغلقة ومنظمات مصالح ، لما امكن لاولئك الناس الصمود رغم انكشاف الاخطاء.

احد العلاجات الممكنة لمثل هذه الحالات هو السماح للصحافة بتناول هذه القضايا ، وتوفير الحماية القانونية للشاكي كي لا يتعرض لعقوبات ادارية او خسائر جسيمة . لان الموظف الصغير اذا خير بين السكوت على ما يراه من فساد ، وبين خسارة وظيفته او قضاء اسابيع او شهورا في الركض وراء المحاكم او انفاق المال على المحامين ، فسوف يختار السكوت دون تردد.

ثمة كلام كثير عن وجود شبكات فساد شبيهة بالتي عرضناها . ويعززها بقاء الموظفين لسنوات طويلة في مناصبهم ومواقعهم ، وعدم وجود لوائح محاسبة تفصيلية في الكثير من الادارات.

قيام هيئة حقوق الانسان والجمعية الوطنية لحقوق الانسان ساعد على تخفيض انتهاكات حقوق المواطنين والمقيمين وكشفت جهودهما عن قدرة المجتمع المحلي على اصلاح نفسه بوسائله الخاصة . واظن ان تكرار التجربة باقامة هيئة وطنية للنزاهة تسندها جمعيات اهلية لمكافحة الفساد سوف يفتح الباب على مصراعيه لتطوير مفهوم الشفافية والمحاسبة وسوف يوفر الفرصة لمعالجة الكثير من حالات الفساد وصولا الى تطوير بيئة معيقة للفساد.

كان ثمة حديث رسمي قبل سنوات عن هذا التوجه. لكننا لا نسمع اليوم شيئا عنه . وقد حان الوقت للعودة الى هذا المشروع الضروري الذي لا تقتصر فوائده على حماية المال العام ، فهو يساعد ايضا على ترسيخ السلم الاجتماعي وتعزيز امل الشباب في مستقبل بلادهم.

الجمعة 5 نوفمبر 2010 - 28 ذو القعدة 1431

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...