أغلب الباحثين
الذين كتبوا عن تصاعد المشاعر الدينية في السنوات الأخيرة ، اعتبروه نوعا من الهروب
الى الماضي ، احتماء به من تحديات الحداثة المؤلمة. بعضهم لاحظ ان التحولات
الاقتصادية التي جاءت في اطار التحديث أوجدت حالة من الضياع وانعدام التوازن
النفسي للأفراد ، الذين ارادوا حجز مكانهم في النظام الاجتماعي الجديد ، لكنهم
وجدوه محاطا بذات الأسوار السياسية التي عرفوها في مجتمع ما قبل الحداثة. إقبال
الافراد على الانضمام الى المجال الديني ، يشكل - في رأي هؤلاء الباحثين - محاولة
للتمسك بقطار لازالت سكته ممتدة بين الماضي والحاضر ، ولازالت ابوابه مفتوحة ترحب
بأي قادم.
الفرد المتأثر
بموجات الحداثة ما عاد يرى نفسه مجرد صورة عن الجماعة التي ينتمي اليها ، بل كائنا
مستقلا يختار صورته وهويته. تطور التفكير في الذات على هذا النحو ، أدى الى
انفصاله عن التدين الجمعي التقليدي. بمعنى انه تحول من التبعية المطلقة لتلك
الصورة/الهوية الدينية ، الى امتلاك تدينه الخاص/هويته. ونتيجة لهذا اصبحت الهوية
الدينية فردانية ، أي اكثر تصلبا وتسلطا مما كانت عليه يوم كان صاحبها تابعا لـ
"دين الاباء". تحول الدين الى خيار فردي جعل حامله مهموما بالعمل على
فرض تصوره/هويته كحقيقة وحيدة في العالم. انها – في هذا المعنى – وسيلة لتحقيق الذات
في عالم متصارع.
هذا الرأي يقدم –
من زاوية واحدة على الأقل – تفسيرا للتباين الذي يشار إليه أحيانا ، بين التدين
القديم ، اي ما يسميه غوشيه "دين الآباء" والتدين الجديد ، أو دين
الأبناء. لم يتنازع الآباء في أغلب الأحيان ، لان تدينهم كان تعبيرا عن ارتباط راسخ
مع الجماعة ، اي هوية مستقرة. بينما يمثل تدين الأبناء هوية لازالت في طور التشكل.
وهي متفارقة ، أو على الأقل مستقلة عن أي جماعة. صحيح ان كثيرا من أفراد الجيل
الجديد منتمون الى جماعات منظمة او تيارات نشطة ، الا انه انتماء مختلف في المضمون
والاغراض عن انتماء الاباء الى الجماعة او التيار العام.
ينتمي الشاب الى الجماعة الدينية وفي ذهنه فكرة
اكتشاف ذاته ثم تحقيق ذاته. وفي ظروف قلقة ومتحولة كالتي تمر بها المجتمعات
العربية ، فان صناعة النفوذ الشخصي تتحول الى دينامو تحقيق الذات. الميل الى تلبس
دور الداعية هو التمظهر المعتدل لهذا التوجه ، لكنه في حالات أخرى ، وان كانت
قليلة ، يظهر في صورة ميل الى السلاح ، تدربا وامتلاكا واستعمالا.
التوتر الذي أصبح
سمة عامة في التيار الديني قد يعطي دليلا على المضمون الهوياتي للتدين الحديث. وهو
توتر ينعكس أحيانا في صورة تنازع بين التيار وخارجه ، كما يتجسد في ميل شبه دائم
الى الانشقاق في داخل التيار نفسه ، اي توترا بين الاطياف المتعددة داخل نفس
التيار ، فضلا عن التوتر الذي يسم السلوك الشخصي للاعضاء. وهو ما يتجسد في الخشونة
النسبية لطروحاتهم وفي ميلهم الى فرض مراداتهم على الغير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق