اصدار مجلس الوزراء السعودي لنظام الجمعيات
والمؤسسات الأهلية هو بالتاكيد أهم أخبار الشهر المنصرم. يشكل النظام الاطار القانوني الضروري لقيام منظمات المجتمع
المدني وتنظيم عملها ، سيما علاقتها مع الاجهزة الرسمية المحلية. انه خبر جدير بأن
يبعث فينا التفاؤل بين سيل من الاخبار الموجعة حولنا.
من السابق لأوانه الحكم على تفاصيل النظام
الجديد. لكن ما يثير اهتمامي هو المبدأ الذي صدر على ضوئه ، اي المشاركة الشعبية في
إدارة المجتمع وتطويره ، التي قال د. ماجد القصبي وزير الشؤون الاجتماعية انها جزء
من رؤية رسمية ترمي للتحول من الرعوية إلى التنموية.
شكل هذا النظام موضع اجماع في المجتمع
السعودي. خلال العقد الماضي تحدث عشرات من المثقفين والشخصيات العامة وكبار
المسؤولين الحكوميين في الدعوة اليه وبيان ضرورته. على أي حال فقد أمسى كل ذلك
خلفنا. إقرار النظام يستدعي الحديث عن المرحلة التالية. ويهمني هنا توضيح نقطة
محددة تخص العلاقة بين الجمعيات الأهلية التي ستقوم في ظله ، وبين الادارة الحكومية. تكمن أهمية المسألة في حقيقة ان
النظام الجديد يقيم منظومة تختلف فلسفيا ووظيفيا عن الاجهزة الرسمية ، لكنها
تشاركها العمل في الفضاء العام.
تستمد المنظمة الحكومية قوتها ومبررات
وجودها من ارتباطها بالطبقات العليا في الهرم الاداري. بينما يعتمد عمل المنظمات
الأهلية وقوتها وخياراتها على ارادة اعضائها ودعم الجمهور ، أي قاعدة الهرم
الاجتماعي. هناك بالتأكيد اختلاف بين الطرفين في طريقة التفكير والاولويات والامكانات
، الأمر الذي يقود بشكل طبيعي الى تزاحم في الارادات. ورأينا هذا التزاحم في تجربة
المجالس البلدية والصحافة ، فضلا عن المنظمات الأهلية شبه التقليدية ، مثل
الجمعيات الخيرية والنوادي الرياضية ، وفي تجربة المنظمات المختلطة
(الرسمية/الأهلية) مثل النوادي الأدبية والجمعية الوطنية لحقوق الانسان.
يرجع التزاحم المدعى الى عاملين ، عامل
ثقافي يشترك فيه الجميع ، الجمهور وموظفي الدولة ، وعامل يخص التشريعات القانونية
التي تنظم عمل الادارات الرسمية.
اشارة وزير الشؤون الاجتماعية الى
"التحول من الرعوية الى التنموية" ترتبط بالعامل الأول. تشكل
"الرعوية" محور الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية كافة. وفحواها
ان الدولة مكلفة بحياة الناس كلها. هذه الرؤية تستدعي – في الجانب المقابل – تدخلا غير محدود لأجهزة
الدولة في حياة الناس وخياراتهم.
وعلى العكس ، فان فلسفة المجتمع المدني تعتبر
المجتمع الأهلي ، كافراد وكمجموع ، مسؤولين تماما عن حياتهم وخياراتهم. وهي رؤية تستدعي
في المقابل انصراف الدولة الى واجباتها الرئيسية ، أي ادارة البلد ككل ، وتقليص
تدخلها في حياة الافراد الى أدنى حد ممكن. وبحسب تعبير أحد الفلاسفة فان قيام
الدولة الحديثة كان ايذانا بتحول وظيفتها الجوهرية من مفهوم السلطة على اشخاص
الناس ، الى مفهوم ادارة المصالح العامة وما يشترك فيه الناس.
تحقيق هذه الرؤية يستدعي مراجعة القوانين
واللوائح التنفيذية التي تنطوي على مضمون تدخلي ، بما يؤدي الى تقليص هذا المضمون
الى أدنى الحدود الممكنة. كما نحتاج الى "اعادة تثقيف" الموظفين
المعنيين بتطبيق تلك اللوائح والقوانين ، أي تنويرهم بالتحول الذي نسعى اليه ،
وصولا الى التطبييق الكامل لفحوى الحديث
الشريف "من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
تصنف الفلسفة السياسية المجتمع المدني كواحد من ابرز أركان الدولة
الحديثة. ونحمد الله ان بلادنا قد انتهت من الخطوة الأولى ، أي وضع الاطار
القانوني ، ويحدونا أمل بأن تأتي الخطوات التالية بما يلبي هذا الأمل ويعززه.
2
ديسمبر 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق