لطالما عاد ذهني الى كتاب "الدين
والطقوس والتغيرات" لعالم الاجتماع
الجزائري د. نور الدين طوالبي ، سيما حين افكر في التضخم الواضح للطقوس الدينية في
المجتمعات العربية ، وخصوصا مجتمعات المدن. على خلاف ما عرفناه في الماضي ، حين
كان الناس جميعا متدينين بالفطرة ، لكنهم أقل اكتراثا بالطقوس. يقدم الكتاب خلاصة
لبحث ميداني في الاحياء المحيطة بالجزائر العاصمة ، سعيا وراء تفسير معنى ومبررات
التدين المديني ، مقارنة بنظيره القروي التقليدي.
والحقيقة ان باحثين كثيرين لاحظوا الطبيعة
المركبة للتدين المديني الجديد ، قياسا على التدين الريفي الذي يتسم بالبساطة. لعل
ابرز سمات التدين الريفي هو ما تعبر عنه المقولة المشهورة "دع الخلق
للخالق" التي تشير الى قدر من عدم الاكتراث بما يفعله الآخرون. ربما يرجع هذا
الى شعور داخلي بالضعف. لكني أميل الى الاعتقاد بان سببه الرئيس هو بساطة
"الحمل الديني" في الحقب السابقة ، قياسا الى ما يشهده عصرنا الحاضر من
تضخم كبير في الخطاب الديني ، رغم انه لا زال سطحيا في ملامسة موضوعاته المفترضة ،
ومركزا على ظواهر الحياة اليومية دون حقائق الحياة ومحركاتها الكبرى.
أعلم
ان كثيرا من الناس يضيق بموضوع كهذا. لأنه قد يرى مناقشة الواقع الديني من خارجه ،
بابا للتشكيك في صدقيته وكونه خيرا كله. لكن علم الاجتماع لا يهتم كثيرا بالحكم
على الظواهر والموضوعات التي يدرسها ، قدر اهتمامه بشرحها وتفسيرها. اما الحكم
بكونها طيبة او سيئة فهي مهمة الأخلاقيين او علماء الدين أو غيرهم.
ان الغرض من هذه الاثارة هو توضيح بعض
الاسئلة والاحتمالات المرتبطة بالموضوع. ومن بينها خصوصا طبيعة التدين الجديد. وقد
أشرت في مقال الاسبوع الماضي الى رأي
المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه الذي رأى في الاتساع الملحوظ للمشاعر الدينية بين
الجيل الجديد ، محاولة لتشكيل هوية فردية مستقلة ، وهي بهذا المعنى دليل على ان
تيار التحديث يحقق اختراقا عميقا في البيئة الاجتماعية المحافظة.
نعرف ان "الايمان" هو العنصر
الجوهري في الدين. وهو تعبير عن تحول روحي عميق في نفس الانسان ، ينطوي – من بين
أمور أخرى – على انتقال اهتماماته من دائرة المصالح التي هو جزء منها ، الى الكون
الذي يشكل في مجموعه مشهدا لتجلي الخالق. بخلاف التدين الهوياتي الجديد ، الذي
يبدأ كسعي لتشكيل هوية مستقلة ، لكنه يعود ثانية لتحويل الانتماء المحلي الى هوية
اضيق نطاقا منه.
من حيث المبدأ ، فان الايمان في الحالة
الاولى مثل التدين في الحالة الثانية ، ينطوي على تعريف للذات ، اي هوية فردية.
لكنه في الأولى منطلق من رغبة في التعارف والتواصل مع الكون ككل ، يقود الى انفتاح
على الخلق جميعا وسعي للمشاركة في عمران الارض ، دون نظر للتمايزات الثقافية
والاجتماعية بين الناس. اما في الحالة الثانية فهو ينطلق من تعارض مع المحيط
القريب ، ولهذا يتسم بالصلابة والرغبة في الزام الغير بالامتثال والتماثل.
يعتقد طوالبي مثل غوشيه ان التدين
الهوياتي يؤدي – دون قصد – الى علمنة الحياة. لأن اشتغاله المتضخم بالدين ، يحول
الدين في نهاية المطاف الى دائرة مصالح حادة الاطراف او ربما مشروع هيمنة ، لا
يختلف كثيرا عن الايديولوجيات السياسية العادية التي تستهدف الهيمنة بشكل صريح.
هذا يعني تجريده من المضمون القدسي الذي يؤلف القلوب والارواح ، وتحويله الى واحد
من تجليات الحياة الاعتيادية ، التي يتصارع الناس حول تفاصيلها ومكاسبها وخسائرها
في كل يوم من أيامهم.
الشرق الاوسط 16 ديسمبر 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق