بعد
ربع قرن من انطلاقه ، تحول النهوض الديني الى ظاهرة اجتماعية واسعة النطاق ، ولم
يعد مقتصرا على عدد من القادة البارزين او المجموعات المنظمة. من هذه الزاوية فان
الاسلام السياسي يخضع لذات القواعد السلوكية التي تخضع لها بقية الظواهر
الاجتماعية ، واشير هنا خصوصا الى عنصر التعددية والتنوع الثقافي في داخل الظاهرة
، اضافة الى عنصر التحول او ما يمكن وصفه بالمزامنة ، اي تغير الافكار والسلوكيات
والتوجهات بتاثير التجاذب بين الفكرة (او الجماعة) والبيئة التي تنشط فيها . لو
رسمنا مصفوفة لعدد نموذجي من الجماعات الاسلامية النشطة اليوم وقارنا دعواتها او
سلوكها السياسي بنظيره قبل عشرين عاما فسوف نكتشف دون كبير جهد ان تحولا يمكن وصفه
بالانقلابي قد حدث خلال هذه الفترة .
جمال البنا |
ولو نظرنا الى التحرك الاسلامي من زاوية اوسع
من حدود الجماعات المنظمة ، فسوف نجد ان هذا التحول لم يعد قاصرا على السلوك
السياسي بل تمدد ايضا الى المتبنيات والاراء والمعتقدات . قبل ثلاثة عقود مثلا كان
معظم الاسلاميين يرفض تفويض البرلمان سلطة التشريع لان التشريع حق خاص لله والرسول
، واذا اقتضى الامر تفسيرا او اجتهادا فهو من حق علماء الشريعة دون غيرهم. لكن
جميع الاسلاميين المعاصرين يشاركون او يدعمون من يشارك في الانتخابات البرلمانية
التي تقود في النهاية الى الاشتراك فيما كان يعتبر حتى وقت قريب عملا محرما وتحديا
لحاكمية الله وحقه.
هناك
بطبيعة الحال اقلية لا تزال ترفض المشاركة وتعتبرها كفرا من عمل الشيطان او خديعة
للمؤمنين ، وهي ترى ان النموذج الوحيد للحكم المشروع هو نموذج "الامارة
الاسلامية" الذي اقامته حركة طالبان في افغانستان ، لكن هذه الاقلية لا ثقل
لها في المسار العام ، وهي على اي حال مثال على التنوع الفعلي داخل الظاهرة
الاسلامية.
في
المقابل فهناك من ذهب الى مدى ابعد في التعبير عن ذلك النوع من التحولات. واشير
مثلا الى المعالجات القيمة التي قدمها الفيلسوف الايراني عبد الكريم سروش حولالحكومة الدينية الديمقراطية ، وحول عدد من القضايا المثيرة للجدل مثل دور الشعب
في توليد الشرعية السياسية للحكومة ، والفارق بين تطبيق الشريعة واقامة العدل بين
الناس ، والطبيعة التاريخية للمعرفة الدينية . ومن بين القضايا التي تثير الاهتمام
في اعمال سروش ، اشير خصوصا الى معالجته للتصورات القائمة على الفلسفة المثالية ،
والتي تنتشر بين الدعاة الاسلاميين عن وعي احيانا وعن غفلة في معظم الاحيان. فهو
يرى ان التصورات المثالية عن الدين او المجتمع الديني يمكن ان تشكل ارضية نظرية او
مبررا روحيا للدعوات الشمولية التي هي بالضرورة دكتاتورية ولا انسانية.
قرأت
في هذه الايام احاديث للدكتور حسن الترابي ، وهو فقيه ومفكر معروف سبق ان قدم
معالجات قيمة في اصول الفقه كما ان له الكثير من الاراء المثيرة للجدل من بينها
مثلا تشديده على دور العرف الاجتماعي في تحديد موضوع الحكم الشرعي وكيفية
تطبيقه. وهو يميل الى الاعتقاد بان ما هو
ملزم في الحكم الشرعي هو غرضه وجوهره وليس تعبيراته ، وعلى هذا الاساس فهو ينفي
مثلا ان يكون لحجاب المراة شكل محدد في كل زمان ومكان ، بل يرى تركه لتحديد العرف
، ومن هنا فان من الممكن ان نرى اشكالا عديدة للحجاب بحسب التحديد العرفي لمعنى
"الستر" الذي قد يختلف من مجتمع الى اخر او من زمن الى اخر.
في
سياق مقارب دعا الاستاذ جمال البنا ، الى تجديد في الفقه الاسلامي لا ينتهي عند
حدود الاحكام وموضوعاتها ، بل يتناول ايضا اصول التشريع والفلسفة التي يقوم عليها
فهم الدين واستنباط احكامه ، والبنا هو
الاخر مفكر اسلامي معروف بارائه المثيرة للجدل ، ومن بينها دعوته الاخيرة
الى تمكين النساء من امامة الجماعة والتخلي عن الاحكام التي تعتبر المناصب
السيادية والقضاء ولايات دينية او محصورة في الرجال.
هذه
امثلة قليلة عن نقاشات واسعة وعميقة يشارك فيها عدد كبير من المفكرين واهل الراي
والسياسة في التيار الاسلامي ، وهي تساهم فعليا في الانتقال بالاسلام السياسي من
الدائرة التقليدية التي انطلق منها الى دائرة اكثر قربا من هموم الانسان المعاصر
وتطلعاته. والغرض من هذا العرض هو دعوة
الناشطين الاسلاميين وسواهم من الفاعلين في الحقل السياسي الى المشاركة الواعية في
هذا التحول ودعم النقاشات الدائرة ضمنه . وكما سلف القول فان الاسلام السياسي لم
يعد محصورا في قائد بارز او حزب سياسي ، بل هو ظاهرة عامة تنطوي على تنوع كبير في
الافكار ، وهو تنوع يتزايد باستمرار . لا ينبغي الشعور بالقلق من هذا التنوع ، ولا
النظر اليه كتغريد خارج السرب ، فليس من المعلوم ابدا ان المتمسكين بتقاليد الماضي
وما ساد فيه من افكار هم اكثر هدى او شرعية او مصداقية من دعاة التخلي عن تلك
التقاليد او اصحاب الافكار الجديدة.
الايام
4 يوليو 2006
مقالات ذات علاقة
-------------------
التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب الجماهيري