‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاصنام الاربعة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاصنام الاربعة. إظهار كافة الرسائل

04/01/2023

ما رايك في ماء زمزم؟


في ماضي الزمان ، كان يقال ان التجربة برهان قطعي على صحة الفكرة/الفرضية او خطئها. وكانت هذه القاعدة  جارية في العلوم التجريبية والنظرية على حد سواء. لكن هذه الرؤية خسرت قوتها منذ ان نشر فرانسيس بيكون (1561-1626) كتابه "الاورغانون الجديد". في هذا الكتاب تحدث بيكون عن "اصنام العقل الأربعة" التي تسهم في تشكيل ذهنية الانسان ، وتؤثر بالتالي في فهمه للعالم وفي احكامه.

الواقع ان الفكرة كانت معروفة قبل بيكون. لكن عمله رفع وزنها العلمي ، وأوضح مبررات ومسارات تأثيرها الحاسم في تفكير الأفراد. منذئذ بات ثابتا في الدوائر العلمية ان كل تأمل ذاتي ، وكذا التفكير في العالم خارج الذات ، سيكون متأثرا – بالضرورة – بالصور والقناعات التي سبق ان توصل اليها الانسان ، من خلال تجاربه الشخصية ، او انتقلت اليه من محيطه ، او اقتنع بها بعد مكابدات فكرية مقصودة.

خلال القرن العشرين ، جرى التركيز بصورة خاصة على التجارب المتعلقة بالعلوم الطبيعية والتجريبية ، بغرض اكتشاف إمكانية التوصل الى نتائج محايدة ، أي غير متأثرة بخلفية الباحث الذهنية. وكان الاعتقاد السائد قبل ذاك ان الانحياز الذهني مقتصر على العلوم الإنسانية دون الطبيعية والتجريبية ، لانها تتكون وتتطور في الذهن ، بخلاف العلوم الأخرى التي تتكون وتتطور في الخارج ، فلا تتأثر – حسب ذلك الاعتقاد – بميول الانسان. لكن تلك المسيرة انتهت بتوافق عام تقريبا ، على ان الانحيازات المسبقة تترك آثارها على كافة الاعمال العلمية ، نظرية كانت او طبيعية او تجريبية. وقيل ان ذلك التأثير يبدأ منذ الملاحظة الأولية ، ثم المراقبة المقصودة للمواد الخام والتجارب المعملية ، وصولا الى اعلان النتائج. فحين يبدأ الباحث بمراقبة المواد الخام او جمعها ، فانه ينطلق من فرضيات خاصة ، متاثرة بقناعات مسبقة. ان اختيار هذه الفرضيات دون غيرها ، يحاكي في غالب الأحيان ، الميول الرائجة في الاطار الاجتماعي او الاكاديمي للباحث ، بل وحتى ميوله الدينية والسياسية في بعض الأحيان. دعنا نأخذ مثالا على هذا بخبير أوكلت اليه مهمة تحليل "ماء زمزم" للتحقق من القول السائر بان فيها شفاء من الامراض. فاذا كان هذا الباحث مسلما ، فمن المؤكد انه سيدخل في التجربة بنية إثبات فوائد ماء زمزم ، الطبية او غير الطبية. ومن المستبعد ان يبدأ باحتمال ان يكون هذا الماء ضارا بالصحة ، أي بعكس الفرضية التي يريد كافة المسلمين الايمان بها.

حين ينظر الانسان الى شيء ، سواء كان فكرة او مادة او شخصا ، فانه لا يراه بعينيه بل يراه بعقله. انت تفهم الشيء الذي تراه ، لأنك تصورته سلفا في عقلك ، أي وضعت اطارا لفهمه واستيعاب معناه. وفي هذا الاطار لا يختلف الباحث في العلوم عن الشخص العادي ، فكلا منهما يتأثر بمسبقاته الذهنية. ومن هنا فان عدة اشخاص ينظرون الى شيء واحد ، فيفهمه كل منهم على نحو مختلف ، وقد يستمعون الى الخبر نفسه فيتأثر به بعضهم الى درجة البكاء ، بينما يقف الآخرون موقف المندهش ، لأن الخبر لم يلامس قلوبهم او يستثير عواطفهم ، بمعنى انهم لم يدركوا الحمولة التي تنطوي في داخل الخبر ، او ان هذه الحمولة لا تعني لهم شيئا ذا بال.

زبدة القول انك مثلي ومثل كل شخص آخر ، لا تنظر للاشياء نظرة محايدة ، ولا تفكر فيها متجردا من انحيازاتك. هذه الانحيازات ليست شيئا قررته ، بل هو جزء من تكوين عقلك ، وقد ترسخ عبر مراس طويل الأمد. ولذا فان ما تعتبره موضوعيا او حقيقة واضحة ، ليس – في الواقع – سوى تصوراتك الشخصية التي البستها تلك العباءة.

الأربعاء - 11 جمادى الآخرة 1444 هـ - 04 يناير 2023 مـ رقم العدد [16108] https://aawsat.com/home/article/4078766/

مقالات ذات صلة

أصنام الحياة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الصنم الخامس

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

كيف تولد الجماعة

مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان

نسبية المعرفة الدينية

 

27/04/2022

مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان


في كتابه الشهير "الاورغانون الجديد" قرر فرانسيس بيكون ان "أصنام السوق" هي أسوأ العقبات التي تعيق  التفكير السليم. و"اصنام السوق" كما ذكرت في المقال السابق هي الكلام المتداول بين الناس ، وتعبيراتهم عن فهمهم للطبيعة والعالم واللغة التي يستعملونها في وصف وتفسير المجردات.

وقد رأى بيكون ان "اللغة" ليست مجرد أداة للتفاهم والتواصل بين الناس  ، بل هي "محدد" للأفكار المتداولة. فالكلمات ليست محايدة ، بل مشحونة بالمعاني والعواطف التي تشير لنقاط توافق بين الملقي والمتلقي. ولهذا يرتاح الناس لبعض ما يلقى عليهم ، سواء كان مكتوبا او لفظيا او حتى مصورا بالقدر الذي يوحي تماما بالفكرة ، ويتفاعلون معه ، او على العكس يتلقونه بانزعاج ويرفضونه.

اني اقدر تماما المبررات التي حملت الفيلسوف الشهير على اعتبار "اصنام السوق" اكثر أهمية. لكن حين أنظر الى تجربة فعلية في المجتمعات الشرقية ، فاني أجد ان جانبا هاما من الكلام المتداول والأعراف السائدة في عصرنا ، هي امتداد للكلام وانماط التفكير التي سادت في قرون ماضية. بعبارة أخرى فان الجانب الأهم من تداولاتنا الثقافية الراهنة ، هي تكرار لتداولات قديمة أو إعادة انتاج لأبرز عناصرها في صيغ واطارات جديدة. وبناء على هذا التحليل ، فان الأصنام الأكثر تأثيرا في المجتمعات الشرقية على وجه الخصوص هي "أصنام المسرح" ، التي تشير لتأثير الأسلاف.

لقد كنت أمر اليوم على كتابات سابقة ، فذكرتني إحداها بقصة "المهابهاراتا" وهي أعظم الملاحم الشعرية التي عرفها تاريخ العالم. لقد شاهدت بعض حلقات المسلسل التلفزيوني المبني على هذه القصة. لكني لم اطلع على نصها المكتوب. تتألف هذه الملحمة المكتوبة بالسنسكريتية ، لغة الهند القديمة ، من 100  ألف بيت شعر ، إضافة لقطع نثرية تروي حوادث وحكما ونصائح ، فضلا عن تعاليم العقيدة الهندوسية. ويبلغ حجمها الإجمالي نحو 1.8 مليون كلمة.

للمهابهاراتا تأثير عميق على ثقافة الجمهور في الهند ، نظرا لمزجها الفريد بين العقائد الدينية والمقولات الفلسفية ، وبين قصص ابطال التاريخ الحقيقيين والاسطوريين ، الأمر الذي حولها من أسطورة الى ما يشبه نصا مقدسا ، او - على الأقل - شيئا من ظلال النصوص المقدسة.

لقد تساءلت مرارا: ما الذي يجعل الناس ، لا سيما المتعلمين منهم ، يستأنسون بقراءة هذه الملحمة ، ويرتاحون للاستماع اليها ، او مشاهدة التمثيل المتخيل عن حوادثها؟.. هل يجدون انفسهم في طياتها ، ام يتمنون ان يكونوا بين رجالاتها ، ام يودون استعادة مجرياتها في زمنهم الحاضر؟.

كان ذهني مشغولا بهذه الأسئلة حين مررت بتغريدة للأستاذ يوسف أبا الخيل دون فيها ملاحظة صادمة ، يقول فيها ان السنة والشيعة المعاصرين ، لازالوا منخرطين في خصومات اسلافهم ، رغم انه لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، وان ضرورات حياتهم المعاصرة توجب ان يركزوا على تنمية مجتمعاتهم ، بدل الانشغال بما جرى في الماضي.

بعدما توقفت عند هذه الملاحظة ، وجدت أن سؤالي السابق عن علاقة الجمهور الهندي بقصص "المهابهاراتا" يتطابق تماما مع واقعنا كمسلمين. فنحن أيضا منغمسون في تاريخنا ، في انتصاراته وهزائمه ، في جمالاته ومكائده ، في أساطيره ورواياته ، حتى ليخيل للإنسان انه يشارك في تمثيل تلك المسرحية الطويلة ، بل لعله يرى فيها ذاته الحقيقية ، مع انها منفصلة تماما عن واقعه ومتطلبات حياته.

اليس هذي هو الصورة الكاملة لتأثير "أصنام المسرح" التي تحدث عنها فرانسيس بيكون؟. السنا نعيد تمثيل تاريخ اسلافنا ، بما فيه من أفكار وحكم وأساطير وأخبار وأشخاص ، بدل ان نصنع واقعا جديدا ينتمي الينا والى حاجاتنا وتطلعاتنا؟.

الشرق الأوسط الأربعاء - 26 شهر رمضان 1443 هـ - 27 أبريل 2022 مـ رقم العدد [15856]

https://aawsat.com/home/article/3614251/

مقالات ذات علاقة

أصنام الحياة

الخروج من قفص التاريخ

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

سجناء التاريخ

الصنم الخامس

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

 فضائل القـرية وحقائق المدينة

 في مبررات العودة الى التاريخ

كهف الجماعة

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

20/04/2022

أصنام الحياة

"صنم المسرح" هو العنوان الذي أطلقه الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) على الآراء والتقاليد والعناصر الثقافية الأخرى ، التي نرثها عن أسلافنا ، وتسهم في تشكيل الجانب الأبرز من ذهنيتنا ، اي خلفية سلوكنا وتفكيرنا في الحياة والأشياء.  

كلنا نتأثر بتراث الأسلاف ، فهو الوسط الطبيعي لحياتنا المبكرة. وهو الذي يربطنا بالأشخاص الآخرين في محيطنا العائلي ، منذ لحظة ولادتنا. وحين نشب عن الطوق ، ونبدأ في التعرف على العالم خارج إطار العائلة ، عندها نتعرض لمصادر تأثير أخرى ، أطلق عليها بيكون اسم "صنم السوق".

فرانسيس بيكون

"صنم السوق" هو ما نسميه اليوم الرأي العام  أو الثقافة العامة ، اي الانطباعات الاجمالية التي يحملها غالبية الناس ، وطريقة تعبيرهم عن مواقفهم تجاه ما يحبون وما يكرهون ، ومنها أيضا نظرتهم للآخرين: الزعماء والشخصيات المشهورة ومصادر التأثير الثقافي ، وكذا نظرتهم للحوادث والنزاعات والقضايا المثيرة للاهتمام.

"صنم المسرح" و "صنم السوق" اثنان من أربعة أصنام ، اتخذها الفيلسوف نموذجا تحليليا لفهم حركة العقل البشري ، والطريقة التي يتبعها في تفكيك الاشياء وانتاج المعاني التي تعيد ربطها بحركة الحياة. كان بيكون يسعى للاجابة على سؤال في غاية الجدية ، نلخصه على الوجه التالي:

-         حين نفكر في موضوع ، هل تعمل عقولنا بصورة مستقلة ، فتنظر للاشياء نظرة محايدة. ام أنها – على العكس - تعمل كمرآة تكثف ما يوجد في البيئة الاجتماعية ، وتقرأ الخط الجامع فيما بينها ، ثم تعيد انتاجه على شكل قاعدة أو فكرة؟.

حاول بيكون والعديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين جاؤوا من بعده ، وضع خط يميز ما هو نتاج حقيقي للعقل ، اي ما نسميه التفكر ، عما هو مجرد تكرار لما يعرفه الناس وما اعتادوا عليه. حاول هؤلاء المفكرون ايضاح ان العقل لا يعمل في فراغ ، بل هو عرضة للتأثر بعوامل مختلفة ، بعضها نابع من داخل الانسان (مثل حاجاته الشخصية وهمومه وميوله ونتائج التجارب التي خاضها بنفسه) وبعضها الآخر هو انعكاس للمعارف والمواقف والهموم الدائرة في المجتمع ، والتي توجب على اعضائه ان يتبنوا منها موقفا منسجما مع التيار الاجتماعي الاوسع.

بعبارة اخرى فان عقل الانسان – من حيث المبدأ – ابن بيئته. لكن هذا الاساس لا يبقى على الدوام. بقدر ما ينفتح الانسان على أجواء مختلفة ويلتقي مع اشخاص جدد ، ويقرأ أفكارا غير مألوفة ، فان عقله سيبدأ باكتشاف ذاته المستقلة عن تأثيرات المحيط وتراث الاسلاف. في هذه المرحلة يتخذ العقل دور المحقق الذي يسائل ما استقر في تلافيف الذاكرة ، ويجادل ما يتوجه اليه من الخارج ، قبل ان يقبله أو يرفضه.

هذه هي مرحلة الانعتاق والتحرر الداخلي ، التي ينبغي لكل انسان ان يجاهد كي يبلغها. وهي مرحلة لا تخلو من عسر ، بل كفاح مرير للتحرر من هيمنة القناعات التي ترسخت في ذهن الانسان وتحولت الى بديهيات لا يفكر فيها الانسان ولا يسائلها ، واشياء ارتبطت بها مصالحه وعلاقاته ونظام معيشته ، فليس من السهل ان يتنكر لها او يخاتلها. هذه هي الاصنام التي اسماها بيكون "اصنام المسرح" و "اصنام السوق".  

من المهم ان نفهم جيدا هذا السياق ، لأننا سوف نواجه – اليوم او غدا – تلك الاسئلة العسيرة. نحن بحاجة لتوجيه الأسئلة الصحيحة الى انفسنا قبل الغير ، الاسئلة الضرورية لتنوير انفسنا وعقولنا ، سواء اقتنع الآخرون بها ام لا.

الشرق الأوسط الأربعاء - 19 شهر رمضان 1443 هـ - 20 أبريل 2022 مـ رقم العدد [15849]

https://aawsat.com/node/3601166


مقالات ذات علاقة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

الـدين والمعـرفة الدينـية

الصنم الخامس

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

نسبية المعرفة الدينية

الهوية المتأزمة

 


14/06/2017

كهف الجماعة



أنت وأنا ننظر الى واقعة واحدة ، فأرى شيئا وترى شيئا آخر. انا وأنت لا نرى الواقعة كما هي ، بل نرى صورتها التي في أذهاننا. لا يختلف الناس في حكمهم على الاشياء لأنهم يجهلون الحقائق ، بل لأنهم يرونها على صور متباينة. قدم الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر صياغة مبسطة لهذا المفهوم فقال ان كل فهم جديد مشروط بالفهم السابق. ولا فهم من دون فهم مسبق. لهذا السبب على الارجح رأى توماس كون ، المفكر الامريكي المعاصر ، ان ما يكتشفه البشر في مراحل العلم العادي ليس سوى اعادة ترتيب لما يعرفونه سلفا.
قبل ذلك بزمن طويل ، رأى افلاطون ان عامة الناس سجناء للذاكرة الفردية او الجمعية التي تحدد رؤيتهم للعالم. تخيل افلاطون كهفا يتسلل اليه بصيص ضوء ، فتنعكس على جدرانه ظلال من حركة الحياة في خارجه ، فيتخيل أهل الكهف انهم يرون الحياة بذاتها. لكنهم في حقيقة الامر لا يرون غير ظلالها. قلة قليلة ممن يملكون البصيرة أو يتحلون بالشجاعة ، يتمردون على كهف الذاكرة فيخرجون الى النور ، فيرون العالم كما هو ويرون الحياة كما هي. وحين يصفونها لأهل الكهف فان قليلا منهم سيجرأون على تقبل فكرة ان هناك ، خارج جدران الكهف ، عالما ينبض بالحياة أو يتحرك في اتجاه مختلف عما تخيلوه طوال حياتهم.

أعاد فرانسيس بيكون شرح الفكرة في نظريته الشهيرة عن أصنام العقل الاربعة ، أي منظومات الأوهام الساكنة والنشطة التي تتحكم في رؤية العقل للحقائق ، وبينها أصنام الكهف.
اصنام الكهف او كهف الذاكرة تنطبق بصورة بينة على المسار الاجتماعي الذي نسميه التمذهب. نحن ننظر الى معتقداتنا فنراها صحيحة دائما. بينما ينظر اليها اتباع مذهب مختلف ، فيرونها خاطئة دائما. نأتي بالادلة والشواهد ، فيأتون بأدلة وشواهد مقابلة. وفي نهاية النقاش ، يزداد الطرفان قناعة بما كانوا عليه أصلا. وكأن النقاشات كلها حوار بين طرشان أو مجرد نفخ في الهواء.
ليس بين الطرفين جاهل او قليل العلم ، وليس بينهما من لا يفهم الادلة او طرق الاستدلال. المسألة وما فيها انهم يفكرون في قضايا تتحد في الاسماء ، وربما تتحد في الجوهر ، لكنهم لا يهتمون بجوهر الاشياء ولا باسمائها ، بل يهتمون بالمعاني المتولدة من تلك الاشياء.
معنى الشيء هو الصلة التي تربط بينه وبين الناس. ولا قيمة لأي شيء ما لم تتحدد علاقته بالاشخاص الذين يتداولونه. جرب ان تعرض على طفل خمسمائة ريال او لعبة بعشرة ريالات ، فما الذي سيختار؟. المؤكد انه سيختار اللعبة ، لانها تعني له شيئا. اما الخمسمائة ريال فليست – بالنسبة اليه – سوى ورقة.
اتباع الأديان والمذاهب وأعضاء الجماعات السياسية ، بل كافة الناس على وجه التقريب ، لايجادلون قناعاتهم الاساسية ، ولا يتخلون عن مسلماتهم ، حتى لو رآها الاخرون غير معقولة. لانها ليست عناصر هائمة في الفضاء ، بل هي اجزاء متناغمة ملتحمة في صورة كاملة مستقرة في ذاكرتهم ، تشكل كهفهم الخاص ، اي عالمهم الحقيقي ، الذي قد يماثل عالم الناس او يختلف عنه ، لكنهم يعرفون انفسهم والعالم على هذا النحو.
هل يستطيع أحد البرهنة على ان عالمك اكثر معقولية من عالمي ، أو ان كهفك اوسع من كهفي؟. ربما. لكننا نتحدث في نهاية المطاف عن كهف ، واسعا كان أو ضيقا.
الشرق الاوسط 14 يونيو 2017

مقالات ذات علاقة


23/09/2015

الصنم الخامس



لطالما أثار فضولي وصف "الاصنام الاربعة" الذي وضعه فرانسيس بيكون (1561-1626). وتعتبر اعمال هذا الفيلسوف الانكليزي من المساهمات المبكرة في نظرية المعرفة الحديثة ، التي قادت الى تهميش المنطق اليوناني القديم.
لاحظ بيكون ان سنن الحياة وحقائق الكون واضحة وقابلة للادراك ، الى درجة يصعب اغفالها. ورغم وضوحها فان الناس لا يستوعبونها فلا يستثمرونها. بعض اصدقائه فسر المفارقة بأن الناس لا يستعملون عقولهم. لكن بيكون تساءل دائما: هل يمكن لاي شخص ان يوقف عقله؟. ليس العقل من الاعضاء التي تتحرك اراديا. العقل لا يتوقف ابدا.
فرانسيس بيكون
المشكلة حسبما رأى بيكون تكمن في احتجاب العقل وراء المسبقات الذهنية ، التي تحصر نشاطه في مسارات محددة. في حالة كهذه فان العقل يلاحظ أشياء كثيرة ، لكنه لا يراها ذاتها ، بل يراها أجساما مغلفة في ثوب يحجب حقيقتها. هذه خلاصة رؤية بيكون عن الاصنام الاربعة.
تراءى لي احيانا ان فرانسيس بيكون اغفل صنما خامسا. ولعل هذا الصنم خاص بنا نحن العرب والمسلمين ومن يمر بمثل ظرفنا التاريخي. دعني أسمي هذا الصنم "الزفة". وهو يشبه من حيث الوظيفة "صنم السوق" ، وهو الثالث من اصنام بيكون. لكنه يتمايز عنه من حيث الأثر.  صنم بيكون يعيق العقل عن رؤية الحقيقة. اما صنمنا فهو يحول تلك الحقيقة الى "كلام جرايد" كما يقول اخواننا المصريون. اي شيئا لا قيمة له.
لو بحثنا في صحافتنا وكلام أهل الرأي منا ، لوجدنا تحليلات قيمة وحلولا ذكية لمختلف القضايا التي برزت على السطح في السنوات الماضية. قد نتعجب اذا علمنا مثلا ان حلولا لمشكلة البطالة قد طرحت منذ عقد ونصف ، لكنا لم نطبق ايا منها ، وان المعالجات الضرورية للخلاص من الاتكال الكلي على اسواق البترول مدروسة ومعلنة منذ اربعين عاما ، وبعضها تم تبنيه رسميا في خطط التنمية الاقتصادية. لكن ايا من تلك الحلول لم ير النور.
الذي حدث اننا تحدثنا فيها كثيرا ، ثم جاءت قضايا أخرى فانتقلنا للكلام فيها وتوصلنا الى حلول ، ثم جاءت قضايا بعدها ، فانصرفنا الى السجال حولها. وهكذا. كل قضايانا اشبعناها بحثا ، لكن ايا منها لم يجد من يعلق الجرس او يسعى لتطبيق الحلول.  فكأن النقاش كان مجرد "زفة" تبدأ ، وتصل الى ذروتها ، ثم ينصرف الناس الى اعمالهم الاخرى وينسون ما جرى فيها وما قيل.
كل الناس سمعوا بالمشكلة ، وكل الناس سمعوا بالحلول المقترحة ، وكلهم نسوها او تناسوها. ليس لانهم اغبياء. بل لان زفة اخرى قد بدأت فانشغلوا بها. وهكذا تستمر حياتنا: زفة تتبعها زفة ، لكنا لا نخرج من اي زفة باي ناتج حقيقي.
اذا اردتم الاثبات فاسألوا المصريين عن التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل ، واسألوا الجزائريين عن توطين صناعة البترول ، واسألوا اللبنانيين عن اتفاق الطائف ، واسألوا السعوديين عن مشروع ال 200 مدرسة. كأن كلا من هذه القضايا الكبرى كان مجرد زفة ، انتهت عند منتصف الليل ، فأوى الناس الى فراشهم ، وفي الصباح عادوا الى حياتهم المعتادة وكأن شيئا لم يكن.
زبدة القول ان كثرة الكلام حول القضايا الكبرى اصبحت بديلا عن تعليق الجرس والانتقال من السجال حولها الى تطبيق الحلول. هذا ليس صنما يمنعنا من رؤية الواقع ، بل صنم يمنعنا من تغيير الواقع المليء بالعقد والمشكلات.
الشرق الاوسط 23-9-2015
http://aawsat.com/node/458816

انظر ايضا: فكرة المجتمع الملول/الضجر: نحو نماذج محلية للتنمية



اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...