بعد عقدين تقريبا على صدور نظام
المناطق ، تبدو الحاجة ملحة لمراجعة مدى نجاحه في تحقيق الغاية الرئيسية التي صدر
من اجلها ، واعني بها التحول الى نظام الادارة اللامركزية ولا سيما في مجال
الخدمات العامة والتنمية .
في المملكة مثل جميع الاقطار العربية
الاخرى ساد الميل فيما مضى الى ادارة مركزية لجميع اعمال الحكومة ، من تعيين صغار
الموظفين حتى وضع الميزانيات والخطط العمرانية في كل قرية ومدينة. صدور نظام
المناطق في 1992 كان بمثابة تاكيد على الحاجة الى تجاوز ذلك النمط الاداري ، وهو
اتجاه اخذت به جميع دول العالم المتقدم واثبت نجاحه في حل مشكلات الادارة والتوزيع
المتوازن للموارد الوطنية فضلا عن تعزيز هيبة الدولة وكفاءة القانون.
قراءة الصيغة التي صدر بها النظام تشي
بنوع من الحذر والتجريبية ، ويبدو هذا امرا طبيعيا عندما تقرر ادخال تغييرات
رئيسية على فلسفة عمل يتاثر بها ملايين الناس وتتحرك وفقها مليارات الريالات كل
عام. لكن بعد ثمانية عشر عاما من صدور النظام ، يمكن القول ان لدينا ما يكفي من
التجربة والقدرة على اكتشاف نقاط القوة ونقاط الضعف في ذلك النظام وفي تطبيقاته.
المبرر الرئيس للنظام المركزي هو ضبط
العمل الاداري والانفاق وربطهما بالخطط المقررة سلفا ، وصولا الى تضييق نطاق
التصرف الشخصي في الموارد العامة ، وفرض النسقية او سيادة القانون في جميع ارجاء
البلاد على نحو واحد. على اي حال فان
فاعلية النظام المركزي وفائدته مرحلية ، سيما في ظروف النمو الاقتصادي السريع كما
هو الحال في المملكة.
اتساع الرقعة الجغرافية والتنوع
الاجتماعي والبيئي الكبير يجعل الادارة عن بعد اقل كفاءة مما يتمنى المخططون. صحيح
ان تطور انظمة المواصلات والاتصالات ربما قللت من تاثير التباعد الجغرافي ، لكنها
لا تعالج ابدا تاثيرات التباين البيئي والاجتماعي ، وهما عنصران مؤثران بشدة في
العمل الفعلي لاي ادارة عامة.
في المقابل فان نظام الادارة
اللامركزية يستهدف جعل الخطط والمشروعات متناغمة مع حاجات البيئة الجغرافية
والاجتماعية المحلية . ويظهر ذلك على وجه الخصوص في جانبين متكاملين :
الاول : في كل منطقة ثمة شريحة من
الموارد وفرص الانماء تختلف عن المناطق الاخرى . كما انها تعاني من مشكلات او هموم
تتمايز بدرجة او باخرى عن غيرها. بل انه حتى في الموارد والفرص المتشابهة فان
مستويات المعيشة والنمو ، اي القابلية المحلية لاستثمار الموارد والفرص تتباين بين
منطقة واخرى ، الامر الذي يستوجب طريقة مختلفة في التخطيط وتوزيع الميزانيات بحيث
تحصل المناطق الاقل نموا على حصة اكبر من المشروعات بهدف ايصالها الى المستوى
الوطني العام في عرض الفرص والقدرة على استثمار الفرص القائمة. هذا يعرف في دراسات
التنمية بالتوزيع المتوازن للثروة الوطنية.
الثاني: رغم اهمية الكفاءة العلمية في
الاداريين ، الا ان المعرفة العميقة للبيئة الجغرافية والاجتماعية للعمل ، اي تلك
العناصرالتي تندرج في الجانب الاول ، هي في الغالب ثمرة للمعايشة المباشرة
والطويلة الامد. مدير المدرسة الذي يعرف عائلات الطلاب وتاريخهم ووضعهم الاجتماعي
هو الاقدر بالتاكيد على فهم طبائعم ومشكلاتهم وعناصر قوتهم وضعفهم والعوامل
المؤثرة في نفوسهم . مدير البلدية الذي هو ابن البلد اقدر من غيره على استيعاب
حاجات قريته او مدينته والعناصر المساعدة والمعيقة في انمائها ، والامر نفسه يقال
عن معظم جوانب العمل الاخرى.
لا ينبغي المبالغة بطبيعة الحال في
تقدير اهمية هذا الجانب ، لكن من الخطأ ايضا اغفاله او تناسيه ، فاهل مكة ادرى
بشعابها كما في الامثال.
بناء على تجربتنا الخاصة وعلى تجارب
العالم نستطيع القول ان الادارة اللامركزية تضمن استفادة اكبر من الامكانات المادية
والبشرية المتاحة في انجاز الاعمال المطلوبة . لان التنمية والتطوير ليست فقط خططا
على ورق ، بل تفاعل بين المخطط والمدير وبين البيئة الاجتماعية التي يعمل فيها ،
فضلا عن التناغم الضروري بين الخطط وبين الظروف البيئية والجغرافية المحلية .
التحول الى اللامركزية الادارية
والتنموية يتطلب تمهيدات قانونية وتنظيمية ، سوف نعود اليها في وقت لاحق.
عكاظ 22 فبراير 2010