‏إظهار الرسائل ذات التسميات التقدم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التقدم. إظهار كافة الرسائل

29/08/2024

اليد الخفية التي تدير العالم

مهما قيل في التأثير الهائل لانظمة الدعاية الحديثة على تفكير الناس وميولهم ، فلن تستطيع تحويل الانسان الى شبه آلة ، تحركها تلك الانظمة. بل أزعم ان التسليم المطلق بهذه الفكرة ، يناقض حكمة الله وتجربة البشر التاريخية. نعلم جميعا ان التقدم المستمر كان سمة ثابتة في تاريخ البشرية. وما ينتجه البشر اليوم من المعارف والمنتجات المادية ، دليل صريح على الفارق العظيم بين حالنا وحال البشرية قبل ألف عام مثلا. تزيد العلوم التي ينتجها انسان اليوم في عام واحد ، عما كان ينتجه الاسلاف في عشرات السنين. وينتج من الغذاء ومصادر الطاقة ووسائل المعيشة ، ما لم يصل اليه الأسلاف حتى في الخيال المجرد.

-         حسنا.. تأملوا معي في معنى التقدم ، أليس جوهره هو التمرد على الافكار السائدة والقناعات المعتادة والاعراف المعهودة.

تخيل أن "نيكولاس كوبرنيكوس" لم يتمرد على المبدأ الموروث ، القائل بان الارض مركز الكون وان الشمس تدور حولها ، فهل كان علم الفيزياء والفلك سيقفز تلك القفزة العظيمة التي نعيش نتائجها اليوم ، في حقل الاتصالات والطيران وتنبؤات المناخ وتطوير الانتاج الزراعي.. الخ؟. في تلك الايام كانت الكنيسة تعتمد نظرية الفلكي اليوناني القديم بطليموس ، وفحواها ان الأرض مركز الكون. ولهذا جوبه كوبرنيكوس بالعزل والتكفير ، فتردد كثيرا في نشر كتابه المتضمن نظريته الجديدة ، حتى الاشهر الاخيرة من حياته.

تخيل أيضا ان "آلان تورينج" لم يتمسك بنموذج الحاسبة الذكية التي طورها في 1938 رغم اخفاقاته الأولية وسخرية زملائه وأرباب عمله ، فهل سيكون لدينا الكمبيوتر والانترنت التي باتت محرك حياة العالم في هذا الزمان؟. هذا وذاك ، بل تاريخ البشرية كله ، دليل على ان فطرة الانسان الاولية ، هي التمرد على السائد والمتعارف ، وليس الانصياع له.

أقول هذا رغم اني – مثلكم – انظر للحياة الواقعية الماثلة امامي ، فأرى غالبية الناس ، تتأثر – كثيرا أو يسيرا - بتوجيه "الأيدي الخفية" التي تدير المسرح من وراء الستار.

-         كيف نوازن اذن بين الاستنتاج المثبت علميا ، عن تأثير الدعاية والبيئة الاجتماعية على تفكير الانسان وسلوكه ، وبين رفضنا للتسليم بهذا القول على نحو مطلق؟.

لاستيضاح المفارقة ، دعنا نستعين برؤية ايمانويل كانط ، رائد الفلسفة الحديثة ، حول الفارق بين حقيقة الاشياء وصورتها في الذهن.

ادرك قدامى الفلاسفة ان صورة الاشياء في الذهن ، لاتطابق دائما حقيقتها الواقعية. حين يخبرك شخص عن فرس سباق ، فربما تتخيل صورة اجمل فرس رأيته. لكن حين ترى الفرس في الواقع ، ستجده مختلفا عن صورته في ذهنك.

اولئك الفلاسفة قالوا ايضا ان معاينة الشيء تنهي تلك الازدواجية ، حيث تتطابق الصورة الذهنية مع الواقع. وقالت العرب قديما "فما راء كمن سمعا". لكن ايمانويل كانط وجد انك حين تنظر للشيء فانك تراه من خلال الصورة التي في ذهنك ، والتي غالبا ما تخالف الواقع قليلا او كثيرا. اي ان الفارق يبقى حتى لو رأيت الشيء بعينيك. هذه النقطة هي موضوع

 عمل الدعاية ، التي تحاول تثبيت صورة ذهنية عن الاشياء ، بغض النظر عن واقعها.

لكن كانط يقول ايضا – وهو بالتأكيد صادق تماما – ان عقل الانسان ليس مرتبة واحدة. فهناك العقل العملي الذي يدير حياتك اليومية ، وهناك العقل النظري الذي يتأمل حقائق الاشياء ويفكك معانيها ، باحثا عما وراء ظاهرها كي يتجاوزه ، فيتحرر من الحاجة اليه ، او يستبدله بما يغني عنه. الدافع لاختراع الطائرة – مثلا – كان شعور الناس بان السيارة عاجزة عن تجاوز قيود الجغرافيا ، مع ان احدا ربما لم يتخيل يومذاك امكانية ان يطير الحديد فوق الهواء. هذا العقل هو الذي يتمرد على تاثير الدعاية والتربية والبيئة ويختار طريقه المنفرد.

سوف اعود لهذا الموضوع في وقت لاحق. لكن يهمني التأكيد على لب الموضوع ، اي وجود حالتين متوازيتين في واقع الحياة: سلوك القطيع ومسايرة الناس ، مقابل الشك في هذا الواقع والتمرد على مسلماته. الأول يكرس النظام والراحة النفسية ، والثاني يؤكد قيمة العقل وكونه ماكينة التقدم الانساني.

الشرق الاوسط الخميس - 24 صفَر 1446 هـ - 29 أغسطس 2024 م   https://aawsat.com/node/5055340/

مقالات ذات صلة

 اختيار التقدم

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح

اناني وناقص .. لكنه خلق الله

اول العلم قصة خرافية

تبجيل العلم مجرد دعوى

التعصب كمنتج اجتماعي

حول الفصل بين الدين والعلم

الرزية العظمى

العقل المؤقت

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي 

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي


 

29/02/2024

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتطلباته ، فما الذي يتوجب فعله كي ننجز هذه المهمة؟.

الواقع ان عددا من الاصدقاء قد وجه هذا السؤال فعلا. لكني لاحظت ان بعضهم استعمل عبارات توحي بالقلق من تحول كهذا. من ذلك مثلا ، قول من قال ان الانتقال للحداثة سيؤدي للتخلي عن الدين. ومثله قولهم ان الصين واليابان وكوريا وحتى بريطانيا ، لم تتخل عن تقاليدها القديمة حين قررت ركوب قطار الحداثة ، فلماذا نطالب نحن بالتخلي عن تلك التقاليد؟.

ويتراءى لي ان هذا النوع من الاسئلة ، يستبطن رغبة قوية في التحرر من قيود الماضي. لكنه – من ناحية أخرى – يشير الى تخوف من الكلفة النفسية والاجتماعية ، التي ربما تترتب على اتخاذ القرار. الذين يطرحون هذه الاسئلة ، يحاولون القول بطريقة ضمنية: هل لديكم طريقة لتخفيف الكلفة ، نظير ما فعل الصينيون او اليابانيون مثلا؟.

حسنا دعنا نقول من حيث المبدأ اننا لا نملك دليلا نهائيا قاطعا ، على أن طريقة الحياة الحديثة او نظيرتها التقليدية ، خالية من العيوب والنواقص. في كل من الحياتين فضائل وفيها نواقص. لكن الذي ندعيه ان فضائل الحداثة اوسع واعمق من نظيرتها التقليدية ، كما ان عيوبها ايسر علاجا وأقل مؤونة. ومن هنا فانه يصعب جدا اقناع الناس باختيار هذا الطريق او ذاك. انها مسؤولية فردية. بوسع كل فرد منا ان يتأمل في حياته الخاصة والخيارات التي أمامه ، ثم يختار ما يراه اقرب لمصلحته او تطلعاته. وفي كلا الحالين سيجد ما يكفي من المبررات لدعم هذا الخيار او نقيضه.

ان التحرر من حياة التقاليد ليس صعبا جدا من الناحية المادية ، لكنه – على أي حال – يحتاج الى تبني "رؤية كونية" جديدة ، اي القواعد الكبرى التي يقوم عليها فهم الانسان لذاته وعالمه ، وعلاقته بالبشر والاشياء في هذا العالم. من بين تلك القواعد ، اريد التأكيد على ثلاث:

الاولى: الانسان محور الحياة في هذا الكون ، ولحياته وكرامته أولوية مطلقة على كل شيء آخر. وهو  - من حيث المبدأ - كائن عقلاني وأخلاقي. الانسان "الفرد" حر في اختيار عقيدته وثقافته وطريقة حياته ومتبنياته القيمية وتطلعاته المستقبلية. وهو مسؤول بصفة شخصية عن خياراته.

الثانية: لكل من الدين والعلم نطاق خاص في حياة الفرد ، لا يتعداه. يستهدف الدين توفير السكينة الروحية ، وتعميق صلة الانسان بالله والنظام الكوني الذي سخره له. ويستهدف العلم استكشاف هذا النظام واستثماره ، ومن ثم تطوير حياتنا ، وتعزيز ازدهارها المادي والاخلاقي. تشترك القيم الدينية والعقلية البحتة في وضع المعايير التي تساعدنا في تعيين ما هو صالح وما هو فاسد ، ماديا واخلاقيا.

الثالثة: الزمن عنصر جوهري في مفهوم الحداثة وتحديد القيمة العلمية للافكار. التاريخ حركة دائبة الى الامام. ما يأتي أصح واكمل مما مضى. التفاعل بين البشر وعناصر الطبيعة ، هو المصدر الاول للمعرفة. ومواصلة العقل لتعامله النقدي مع الافكار والمعلومات ، يؤدي دائما الى فهم أفضل للانسان والكون المحيط به. لا قدسية للزمن بذاته ، ولا تفضيل لحقبة على حقبة ، لكن بالنظر الى محورية الجهد البشري في صناعة التقدم ، فان ما يأتي سيكون غالبا اكمل وأصح مما مضى.

هذه القواعد الثلاث تحدد – في اعتقادي – الخط الفاصل بين عصر التقاليد وعصر الحداثة. اعتناقها كرؤية حاكمة ومعيارية ، هو ما يجعل الانسان منتميا الى العصر الجديد. لا يتعلق الامر بلباس قديم او جديد ، ولا لغة محلية او عالمية ، ولا مصادر معلومات خاصة ولا ايديولوجيا او دين بعينه. يمكن للانسان الحديث كما التقليدي ، ان يكون متدينا او ملحدا. ويمكن له ان يعيش في مدينة حديثة او في اعماق الريف. ما هو مهم هو تكوينه الذهني ورؤيته للعالم ، هل تنتمي للعصر القديم ام تتفاعل مع العصر الجديد.

الشرق الاوسط الخميس - 19 شَعبان 1445 هـ - 29 فبراير 2024 م   https://aawsat.com/node/4883681

مقالات ذات صلة

ابعد من تماثيل بوذا

الاسئلة الباريسية

الاسئلة التي تزيدنا جهلا

البديل عن نموذج السوبر ماركت

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

التواصل الثقافي ، موديل السوبر ماركت

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )

الشيخ القرني في باريس

العقلاء الآثمون

العولمة فرصة ام فخ ؟

في بغض الكافر

في مستشفى الكفار

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله

من القطيعة الى العيش المشترك

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

وهم الصراع بين الحضارات

اليوم التالي لزوال الغرب

12/10/2022

الخوف من التغيير

ربما تسألني: ما السر في حرص المجتمع التقليدي على اختلاق القيود والضوابط ، التي تفرغ الحرية من أي مضمون؟.

السر في رايي هو ادراك الجميع لحقيقة ان الحرية تسهل التغيير في الثقافة والقيم الاجتماعية. الخوف من التغير هو الدافع الأقوى لمقاومة الأفكار الجديدة. هذا ليس السبب الوحيد بطبيعة الحال ، فهناك أيضا حالة الكسل الذهني التي تجسدها المقولة الشهيرة "ليس في الإمكان ابدع مما كان". وللمناسبة فهذا القول المنسوب لابي حامد الغزالي أثار جدلا واسعا. والمفهوم انه استهدف التأكيد على كمال النظام الكوني وعجيب صنع الله. لكن معارضيه اعتبروه تحديدا لقدرة الله وتعطيلا. وصدرت رسائل عديدة بين مؤيد للغزالي ومعارض.

أما استشهادنا بذلك القول ، فبعيد عن هذا الاطار ، وناظر الى ما يقوله عامة الناس ، من أن الانسان قد وصل غاية العلم ، وأن ما سيأتي لن يكون اختراقا جديدا ، بل مجرد تكميل لما يعرفه الناس فعلا. كانت هذه الفكرة قوية في القرنين الماضيين. وينقل في هذا الصدد ان هنري ايلزورث ، المفوض الرسمي لتسجيل براءات الاختراع في الولايات المتحدة ، قد كتب للكونغرس عام 1843 بأن العلم والفن يواصلان التقدم عاما بعد عام ، بحيث يبدو اننا نقترب فعليا من نهاية الطريق. وقد تم تداول هذه الفكرة لاحقا في صيغة ان "كل ما يمكن اختراعه قد اخترع فعلا".

الخوف من التغيير يولد عادة في البيئات الثقافية التي ترى الماضي حصنا يحمي هويتها ، وتشرط قبول الفكرة الجديدة ، بكونها منسجمة مع فكرة حالية او قديمة. وعلى العكس من ذلك فان الرغبة في التغيير ، تنطلق من ذهنية تميل لتجاوز المألوف ، والبحث الدائم عن الجديد والمجهول. وهي تنمو – عادة – في البيئات التي تربي أعضاءها على حب المغامرة وكشف حجب الغيب. دعنا نأخذ مثالا من الفتوحات الكبرى في الجغرافيا مثل اكتشاف القارات والطرق البحرية والغابات الكبرى والصحارى.. الخ ، فمعظم هذه الكشوف حققها افراد مغامرون ، انطلقوا من دون علم دقيق بما سيصلون اليه ، لكنهم آمنوا بأن وراء حدود المعرفة القائمة ، ثمة عوالم أوسع تستحق ان نحاول كشفها. نفس المثال صحيح بالنسبة للكشوف في مجالات العلوم الطبيعية والاختراعات ، فقد انطلق جميعها من قناعة أصحابها بأن ما يعرفونه ليس كاملا ولا نهائيا ، وان عالمهم ليس سوى واحد من الممكنات ، وثمة ممكنات كثيرة غيره لاتزال غير مكشوفة. لولا ثقافة المغامرة لما عرف الانسان أمريكا ، ولا الطريق البحري الذي يلتف حول القارة الافريقية ، ولا حفرت قناة السويس. ولولا ثقافة المغامرة ما صنعت الطائرة وأنواع الادوية والأجهزة والأدوات ، التي جعلت انسان العصر حاكما في الكون ، بعدما كان محكوما بالظواهر الطبيعية وما نسج حولها من أساطير.

عودا على ما بدأنا به ، نقول ان شعور الناس بانهم أحرار في حياتهم ، احرار في تفكيرهم وفي تعبيرهم عن تلك الأفكار ، هو العامل الأعظم للتقدم ، لأنه ببساطة يجعل جميع الناس شركاء في صناعته. ثمة رأي مشهور يتفق فيه المحافظون والليبراليون ، فحواه ان الأمان والاستقرار شرط للنهوض الاقتصادي والعلمي. دعنا نفهم هذا على ضوء رؤية نيقولو مكيافيلي ، المفكر الإيطالي الشهير ، الذي يقول ان الناس لا يسعون للحرية من اجل الاستيلاء على السلطة ، فهم يدركون ان مقاعدها محدودة العدد ، وغالبا ما تكون محجوزة لآخرين. انما يسعى الناس الى الحرية لانها توفر لهم الأمان حين يتكلمون وحين يعملون.

لدينا دليل متين يثبت هذه الدعوى ، وهو المقارنة بين الدول التي توفر الحرية وتلك التي تحجبها كليا او جزئيا. ما نتح عن هذه السياسة في قرن او نصف قرن او ربع قرن ، برهان ساطع على ثمرة الحرية وعكسها.

 

الأربعاء - 17 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 12 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16024]

https://aawsat.com/node/3925741

مقالات ذات صلة

ابتكار المستقبل

اختيار التقدم

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

خطباء وعلماء وحدادون

ركاب الدرجة السياحية

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

كيف نتقدم.. سؤال المليون

ماذا تفعل لو كنت غنيا ؟

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

06/04/2022

الذات الجمعية وعقلية القطيع

 

ذكرت في الاسبوع الماضي ان اول مقدسات التغيير هو تعزيز الايمان بالذات الجمعية ، وخلاصتها اننا – كمجموع – قادرون على النهوض وصناعة مستقبل مختلف. وقد أشكل الصديق سامي الخزاعي على هذه الفكرة ، بأنها قد تنتهي الى تسويد عقلية القطيع ، وقتل الروح الفردانية الضرورية للنهضة.

وقد وجدت الخزاعي محقا في قلقه. لدينا تجارب عديدة تشير لانقلاب الحراك النهضوي الى حالة شعبوية ، تخدم مصالح خاصة لطبقة او فئة حزبية ، او ربما تخضع لقناعات شخصية ، يصعب القطع بكونها مطابقة لمصالح المجتمع العليا.

مصنع مدرعات في المانيا النازية

أمامي أمثلة عديدة ، أبرزها تجربة الحزب النازي الذي نجح خلال فترة وجيزة في انهاء الفوضى العارمة التي أغرقت ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى ، وحولها الى دولة صناعية في غاية القوة والانضباط. لقد انضم غالبية الألمان الى مشروع النهضة هذا ، إيمانا بشعاره المحوري "ألمانيا فوق الجميع" ، الذي شكل صلة الوصل بين مشروع النهضة والمجتمع الألماني. لكننا نعلم ان هذا المشروع العظيم ، انقلب الى مبرر للقضاء على كل راي مخالف ، وقمع كل مختلف أو معارض للأيديولوجيا الرسمية.

وجدنا حالة قريبة من هذه في مصر الناصرية ، التي سعت لحشد المجتمع وراء فكرة التحرير والنصر على اسرائيل. ونعرف ان مصر قد تأخرت بمسافة شاسعة عن أقرب منافسيها ، بسبب هيمنة العسكر والمصفقين ، وانكفاء اصحاب الرأي والخبرة او اقصائهم. واسمع عن حالة قريبة من هذه في المناطق الخاضعة لنفوذ حزب الله في لبنان ، حيث لا يسمح بأي صوت يتعارض مع شعارات الحزب ومتبنياته الايديولوجية والسياسية ، وكل ذلك تحت عباءة المقاومة والتصدي لما يسمونه المؤامرة الدولية.

ورأيت بعيني تطبيقا لنفس الفكرة في ليبيا في عهد العقيد القذافي ، الذي نجح في جعل أساتذة الجامعات واهل الرأي ، يرتجفون رعبا أمام موظف حصل بالكاد على الشهادة الثانوية ، لا لشيء الا لأنه حفظ مقولات "الكتاب الأخضر" واقاصيص الزعيم الملهم.

هذه اذن مشروعات ، بدأت – ربما - بحسن نية ، وساندها جمهور الناس عن قناعة بأن الحركة – ولو كانت خاطئة – خير من الجمود. لكنها انقلبت الى حركات شعبوية ، تحول الناس من فاعلين في الحياة او صانعين للحياة ، الى كومبارس في فرقة موسيقية ، دورهم الوحيد هو ترديد ما يقوله الرئيس/المايسترو.

لا ينبغي الظن بأن هذا مصير كل حركة نهضوية. فلدينا تاريخ البشرية كله ، شاهد على أن غالبية التجارب النهضوية ، انتجت حضارات او شاركت في انتاج مسارات حضارية. ولولا ان معظمها نجح وأفلح ، لما كنا نستمتع اليوم بعالم متطور تكنولوجيا ومتطور قانونيا وانسانيا. في تجربة الهند واليابان والولايات المتحدة وغيرها ، أمثلة ناصعة على قابلية المجتمع لتوليف حراك جمعي ، رغم كثرة الاختلاف بين اطيافه ، وفيها أيضا دليل على قابلية المجتمع الناهض ، للحفاظ على التوازن الضروري بين بروز الذات الجمعية من جهة ، واحترام استقلال الأفراد من جهة ثانية.

زبدة القول انه ليس مستبعدا ، ان يتحول النهوض الاجتماعي الى محرقة للحريات العامة وحقوق الانسان. لكن تجربة الانسانية التي كشفت لنا عن هذه الامكانية ، أكدت لنا ايضا ان معظم التجارب انتهت الى نتائج سعيدة للانسان وعالمه.

أبرز ما نستخلصه من تلك التجارب ، هو الترتيب الموضوعي بين المقصد الاساس ، اي النهضة ، وبين النواتج الجانبية المحتملة ، مثل الاستبداد وقمع الحريات العامة. لا ينبغي بطبيعة الحال التهوين من خطورة هذا الناتج. لكن علينا ان لا نغفل ايضا حقيقة انه يأتي في المرتبة الثانية ، فلا يصح التردد في المشروع النهضوي خوفا من الاحتمالات السلبية المصاحبة له.

الشرق الأوسط الأربعاء - 5 شهر رمضان 1443 هـ - 06 أبريل 2022 مـ رقم العدد [15835]

https://aawsat.com/node/3574801

 

مقالات ذات علاقة

احتواء التحدي وتحييده

اخلاق المدينة وحدودها

استنهاض روح الجماعة

اعادة بناء الاجماع الوطني

انهيار الاجماع القديم

حول الاجماع الوطني

مقدسات التغيير

مقدسات التغيير: مراجعة أولى

من الكويت الى نيوزيلندا: "هذولا عيالي..."

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

30/03/2022

مقدسات التغيير: مراجعة أولى


ولدت هذه الفكرة بعدما قرأت عتابا للصديق عبد العزيز بن حمد ، على "تويتر" ، منصة التدوين القصير المشهورة. وفحوى ذلك العتاب ان كاتب هذه السطور وعد تكرارا بالعودة لاستكمال فكرة ناقصة ، في مقال آخر ، لكنه لم يفعل. ومن أبرز ما حضرني اثناء قراءة هذا العتاب ، مقالة نشرتها في صحيفة الاقتصادية قبل 8 سنين ، وهي مستوحاة من رؤية المؤرخ المعروف أرنولد توينبي ، حول قابلية المجتمع لمواجهة التحديات الكبرى. وقلت يومها اننا بحاجة لتبني ثلاثة مبادئ ، بل رفعها الى مرتبة القداسة ، كي تكون دليلا لحركتنا نحو المستقبل. ووعدت في نهاية المقالة المختصرة بالعودة الى شرح الأفكار ، لكني – للانصاف – لم أرجع لها الا لماما أو عابرا.

سوف اخصص هذه المساحة للتذكير بالمبدأ الأول من مقدسات التغيير ، وهو  تعزيز الايمان بالذات الجمعية. وخلاصته اننا – كمجموع – قادرون على حل مشكلاتنا بأنفسنا ، قادرون على تجاوز خلافاتنا والانصهار في بوتقة فكرة قائدة ، هي فكرة التقدم. بل نحن قادرون أيضا على منافسة الآخرين الذين تقدموا علينا ، في بعض الجوانب على الأقل ، بما يقيم نوعا من التوازن النفسي ويعزز الثقة في الذات.

لا أظن أحدا يخالف هذه الفكرة. فنحن نسمعها من عشرات المتحدثين ، بين حين وآخر. لكننا مع ذلك لا نشعر اننا نسير حثيثا في طريق التقدم. هذا على الأقل ما تلمسه من مقالات الصحافة المحلية ، ومن تعليقات الناس في منصات التواصل الاجتماعي.

والذي أظن ان الفكرة السابقة ككل ، غير واضحة في أذهان غالبية الناس. فهناك أولا اختلاط هدف التقدم ، باعتباره الغاية الأسمى للنظام الاجتماعي ، مع الأهداف الصغيرة او الآنية ، مثل عدم توفر وظائف للجميع ، غلاء المعيشة ، ضعف مستوى الخدمات البلدية.. الخ. ان انشغال الناس بأمثال هذه المشكلات يحملهم على الاعتقاد بان التقدم الذي يذكرونه ، ليس له معنى غير علاج تلك المشكلات. واضافة الى هذا ، فهناك من يلخص فكرة التقدم في الرفاهية ، التي تعني مزيدا من المال والاستهلاك وتجميل مرافق العيش.

لعل اقرب نموذج عملي لفكرة التقدم (في التجربة السعودية على الأقل) هي "رؤية 2030" والبرامج العملية المساندة لها.  وهي مخطط ضخم جدا ، اعتقد أنه سيغير وجه الحياة في المملكة ، حتى لو انجز نصف المشروعات المخططة في إطاره فقط.

وضعت "رؤية 2030" على ضوء نظرية التنمية الكلاسيكية ، التي تربط النمو الاجتماعي المتعدد الجوانب بالمحرك الاقتصادي. ومن هنا فان غالب مشروعاتها تندرج ضمن نسق تحديث الاقتصاد ، وهو ايضا المبرر الرئيس للدور المحدود - نسبيا – للمجتمع الأهلي في سياسات "الرؤية" ومشروعاتها.

خلال الاعوام الثلاثة الأخيرة ، لاحظت اهتماما أكبر بدور المجتمع الأهلي ، ولا سيما في مساندة التحولات الثقافية المرافقة لتطور مشروعات "الرؤية". لكن المسافة لازالت شاسعة بين الواقع الراهن والدور الذي ينبغي للمجتمع ان يؤديه في دعم الرؤية وحمايتها.

في اعتقادي ان انفعال المجتمع بهدف "التقدم" ، وتبنيه لعناصره ومفاهيمه ، هو السبيل الوحيد كي يتحول المجتمع من متفرج على برامج الانماء ، الى شريك فاعل في انشائها وحمايتها وتطويرها. المجتمع الذي نتحدث عنه هو الجماعة الوطنية ، اي كافة المواطنين باعتبارهم أمة واحدة ، هذا يفهم وفقا للقول المشهور "التعدد في اطار الوحدة الوطنية" اي هوية جامعة تحتضن بين جناحيها هويات قومية ومذهبية ودينية وثقافية متباينة ، تتفاعل ولا تتزاحم.

الشرق الأوسط الأربعاء - 27 شعبان 1443 هـ - 30 مارس 2022 مـ رقم العدد [15828]

https://aawsat.com/node/3561826/

 

مقالات ذات صلة

 اختيار التقدم

استنهاض روح الجماعة

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

حول برنامج التحول الوطني

خطباء وعلماء وحدادون

 شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

الطريق الى 2030

عجلة التنمية المتعثرة

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

كيف نتقدم.. سؤال المليون

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

13/05/2020

"الفرج بعد الشدة"


||ما تحدثه الاوبئة من فتك بالبشر، ومن فوضى واضطراب في نظام العالم، تولد شعورا قويا بالحاجة للتغيير، اي ابتكار بدائل عن نظم عجزت عن احتواء تحدي الوباء او غيره ||

بعض القراء اطلع بالتأكيد على كتاب "الفرج بعد الشدة" للقاضي المحسن بن علي التنوخي الأنطاكي (939-994م). الذي أراد تعزيز الأمل والتفاؤل ، من خلال تهوين مصائب الدنيا ، وبيان ما يحصل من يسر وسعة بعد الشدائد. وللكتاب شعبية واسعة بين الخطباء والمتحدثين ، لكثرة ما فيه من قصص طريفة. وقد أصاب التنوخي ما قصده ، فتاريخ البشرية يشهد ان كل شدة لابد ان تفضي الى فرج.
بعد هذا التمهيد اقول: ان حديث اليوم لايجاوز هذا الاطار. لكني لا أقصد تهوين الأمور وان بدت في السياق على هذا النحو. وموضوعنا كما هو واضح ، عن حال العالم بعد انقشاع جائحة كورونا.
من ضروب المبالغة الادعاء ، بان أحدا يعرف تماما كيف سيكون العالم بعد سنة او اقل أو اكثر. بديهي ان الخبراء في كل مجال ، سيواصلون التأمل في البيانات المتوفرة ، وسوف يضعون توقعات لما قد يحدث. لكن أحدا منهم لن يغامر بالقول ان تلك التوقعات علم قطعي.
لعل قارئا يسأل مستنكرا: طالما ان الامر لايتعدى توقعات غير حاسمة ، وقد لايعتمد عليها في اتخاذ قرارات أو تحريك موارد ، فما الداعي للاحتفاء بها ، ولماذا نصرف الجهود والاموال على التحليل ووضع الاحتمالات؟.
في الجواب على هذا التساؤل ، يكمن سر المعرفة والتقدم. فلو راجعت ابرز التحولات التي مر بها العالم على صعيد الاقتصاد والصحة والعلوم ، لوجدت ان معظمها جاء بعد كوارث مخيفة. كمثال على هذا فان النصف الاول من القرن العشرين ، شهد ظهور النماذج الاولية والمعادلات الأساسية ، لمعظم الاجهزة التي نستعملها اليوم ، وكذلك الادوية التي نتعالج بها ، والقواعد العلمية التي نعتمدها في شتى ابعاد حياتنا. في العموم فان ما أنجزه العالم في هذه الحقبة ، تجاوزت ما حققه خلال القرون الاربعة السابقة جميعا.
لكنا نعلم ايضا ان هذه الحقبة نفسها ، أي النصف الاول من القرن العشرين ، هي الفترة التي شهدت اضخم الكوارث ، التي سجلها تاريخ البشرية في القرون الخمسة الأخيرة. ومن بينها مثلا الاوبئة التي ذهب ضحيتها ما يزيد عن 150 مليونا ، والحروب الكونية التي قتل فيها نحو 60 مليونا ، اضافة الى موجات الكساد التي ضربت اقتصاديات العالم شرقا وغربا ، ولاسيما كساد العشرينات الذي أدى الى هجرات واسعة ، وموت عشرات الآلاف جوعا.
ثمة محركات عديدة تقف وراء البحث العلمي والاختراع. لعل اقواها شعور الانسان بحاجته الماسة للسيطرة على اقداره ، اي التحرر من اسر الطبيعة وتجاوز قيودها ، وادارة حياته وفق ما يريد ، لا وفق ما هو مضطر اليه بسبب قلة حيلته او قصور امكانياته.
ما تحدثه الاوبئة من فتك بالبشر ، وما تؤدي اليه من فوضى واضطراب في نظام العالم ، تولد شعورا قويا بالحاجة الى التغيير والتطوير ، اي ابتكار بدائل عن نظم سائدة ، كشف الوباء عن ضعف استجابتها لحاجات البشر، او صنع تجهيزات ظهرت حاجتنا اليها ، او طرق عمل ومناهج كانت مستبعدة في الماضي وظهر انها ممكنة ، بل ربما ظهر انها اكثر فائدة مما ظنناه.
هذي ببساطة هي الحلقة التي تربط بين الشدة التي يعبر عنها الوباء ، وبين الفرج الذي يلوح وراء جدران الزمن والغيب ، ويدعو الانسان للبحث والمحاولة كي يشق حجابه ويقبض عليه. دعنا نؤمل خيرا ، فوراء العسر يسر وفرج وربما عوض عن كل ما فات.
الشرق الاوسط الأربعاء - 20 شهر رمضان 1441 هـ - 13 مايو 2020 مـ رقم العدد [15142]

مقالات ذات صلة


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...