‏إظهار الرسائل ذات التسميات التقدم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التقدم. إظهار كافة الرسائل

12/10/2022

الخوف من التغيير

ربما تسألني: ما السر في حرص المجتمع التقليدي على اختلاق القيود والضوابط ، التي تفرغ الحرية من أي مضمون؟.

السر في رايي هو ادراك الجميع لحقيقة ان الحرية تسهل التغيير في الثقافة والقيم الاجتماعية. الخوف من التغير هو الدافع الأقوى لمقاومة الأفكار الجديدة. هذا ليس السبب الوحيد بطبيعة الحال ، فهناك أيضا حالة الكسل الذهني التي تجسدها المقولة الشهيرة "ليس في الإمكان ابدع مما كان". وللمناسبة فهذا القول المنسوب لابي حامد الغزالي أثار جدلا واسعا. والمفهوم انه استهدف التأكيد على كمال النظام الكوني وعجيب صنع الله. لكن معارضيه اعتبروه تحديدا لقدرة الله وتعطيلا. وصدرت رسائل عديدة بين مؤيد للغزالي ومعارض.

أما استشهادنا بذلك القول ، فبعيد عن هذا الاطار ، وناظر الى ما يقوله عامة الناس ، من أن الانسان قد وصل غاية العلم ، وأن ما سيأتي لن يكون اختراقا جديدا ، بل مجرد تكميل لما يعرفه الناس فعلا. كانت هذه الفكرة قوية في القرنين الماضيين. وينقل في هذا الصدد ان هنري ايلزورث ، المفوض الرسمي لتسجيل براءات الاختراع في الولايات المتحدة ، قد كتب للكونغرس عام 1843 بأن العلم والفن يواصلان التقدم عاما بعد عام ، بحيث يبدو اننا نقترب فعليا من نهاية الطريق. وقد تم تداول هذه الفكرة لاحقا في صيغة ان "كل ما يمكن اختراعه قد اخترع فعلا".

الخوف من التغيير يولد عادة في البيئات الثقافية التي ترى الماضي حصنا يحمي هويتها ، وتشرط قبول الفكرة الجديدة ، بكونها منسجمة مع فكرة حالية او قديمة. وعلى العكس من ذلك فان الرغبة في التغيير ، تنطلق من ذهنية تميل لتجاوز المألوف ، والبحث الدائم عن الجديد والمجهول. وهي تنمو – عادة – في البيئات التي تربي أعضاءها على حب المغامرة وكشف حجب الغيب. دعنا نأخذ مثالا من الفتوحات الكبرى في الجغرافيا مثل اكتشاف القارات والطرق البحرية والغابات الكبرى والصحارى.. الخ ، فمعظم هذه الكشوف حققها افراد مغامرون ، انطلقوا من دون علم دقيق بما سيصلون اليه ، لكنهم آمنوا بأن وراء حدود المعرفة القائمة ، ثمة عوالم أوسع تستحق ان نحاول كشفها. نفس المثال صحيح بالنسبة للكشوف في مجالات العلوم الطبيعية والاختراعات ، فقد انطلق جميعها من قناعة أصحابها بأن ما يعرفونه ليس كاملا ولا نهائيا ، وان عالمهم ليس سوى واحد من الممكنات ، وثمة ممكنات كثيرة غيره لاتزال غير مكشوفة. لولا ثقافة المغامرة لما عرف الانسان أمريكا ، ولا الطريق البحري الذي يلتف حول القارة الافريقية ، ولا حفرت قناة السويس. ولولا ثقافة المغامرة ما صنعت الطائرة وأنواع الادوية والأجهزة والأدوات ، التي جعلت انسان العصر حاكما في الكون ، بعدما كان محكوما بالظواهر الطبيعية وما نسج حولها من أساطير.

عودا على ما بدأنا به ، نقول ان شعور الناس بانهم أحرار في حياتهم ، احرار في تفكيرهم وفي تعبيرهم عن تلك الأفكار ، هو العامل الأعظم للتقدم ، لأنه ببساطة يجعل جميع الناس شركاء في صناعته. ثمة رأي مشهور يتفق فيه المحافظون والليبراليون ، فحواه ان الأمان والاستقرار شرط للنهوض الاقتصادي والعلمي. دعنا نفهم هذا على ضوء رؤية نيقولو مكيافيلي ، المفكر الإيطالي الشهير ، الذي يقول ان الناس لا يسعون للحرية من اجل الاستيلاء على السلطة ، فهم يدركون ان مقاعدها محدودة العدد ، وغالبا ما تكون محجوزة لآخرين. انما يسعى الناس الى الحرية لانها توفر لهم الأمان حين يتكلمون وحين يعملون.

لدينا دليل متين يثبت هذه الدعوى ، وهو المقارنة بين الدول التي توفر الحرية وتلك التي تحجبها كليا او جزئيا. ما نتح عن هذه السياسة في قرن او نصف قرن او ربع قرن ، برهان ساطع على ثمرة الحرية وعكسها.

 

الأربعاء - 17 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 12 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16024]

https://aawsat.com/node/3925741

مقالات ذات صلة

ابتكار المستقبل

اختيار التقدم

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

خطباء وعلماء وحدادون

ركاب الدرجة السياحية

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

كيف نتقدم.. سؤال المليون

ماذا تفعل لو كنت غنيا ؟

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

06/04/2022

الذات الجمعية وعقلية القطيع

 

ذكرت في الاسبوع الماضي ان اول مقدسات التغيير هو تعزيز الايمان بالذات الجمعية ، وخلاصتها اننا – كمجموع – قادرون على النهوض وصناعة مستقبل مختلف. وقد أشكل الصديق سامي الخزاعي على هذه الفكرة ، بأنها قد تنتهي الى تسويد عقلية القطيع ، وقتل الروح الفردانية الضرورية للنهضة.

وقد وجدت الخزاعي محقا في قلقه. لدينا تجارب عديدة تشير لانقلاب الحراك النهضوي الى حالة شعبوية ، تخدم مصالح خاصة لطبقة او فئة حزبية ، او ربما تخضع لقناعات شخصية ، يصعب القطع بكونها مطابقة لمصالح المجتمع العليا.

مصنع مدرعات في المانيا النازية

أمامي أمثلة عديدة ، أبرزها تجربة الحزب النازي الذي نجح خلال فترة وجيزة في انهاء الفوضى العارمة التي أغرقت ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى ، وحولها الى دولة صناعية في غاية القوة والانضباط. لقد انضم غالبية الألمان الى مشروع النهضة هذا ، إيمانا بشعاره المحوري "ألمانيا فوق الجميع" ، الذي شكل صلة الوصل بين مشروع النهضة والمجتمع الألماني. لكننا نعلم ان هذا المشروع العظيم ، انقلب الى مبرر للقضاء على كل راي مخالف ، وقمع كل مختلف أو معارض للأيديولوجيا الرسمية.

وجدنا حالة قريبة من هذه في مصر الناصرية ، التي سعت لحشد المجتمع وراء فكرة التحرير والنصر على اسرائيل. ونعرف ان مصر قد تأخرت بمسافة شاسعة عن أقرب منافسيها ، بسبب هيمنة العسكر والمصفقين ، وانكفاء اصحاب الرأي والخبرة او اقصائهم. واسمع عن حالة قريبة من هذه في المناطق الخاضعة لنفوذ حزب الله في لبنان ، حيث لا يسمح بأي صوت يتعارض مع شعارات الحزب ومتبنياته الايديولوجية والسياسية ، وكل ذلك تحت عباءة المقاومة والتصدي لما يسمونه المؤامرة الدولية.

ورأيت بعيني تطبيقا لنفس الفكرة في ليبيا في عهد العقيد القذافي ، الذي نجح في جعل أساتذة الجامعات واهل الرأي ، يرتجفون رعبا أمام موظف حصل بالكاد على الشهادة الثانوية ، لا لشيء الا لأنه حفظ مقولات "الكتاب الأخضر" واقاصيص الزعيم الملهم.

هذه اذن مشروعات ، بدأت – ربما - بحسن نية ، وساندها جمهور الناس عن قناعة بأن الحركة – ولو كانت خاطئة – خير من الجمود. لكنها انقلبت الى حركات شعبوية ، تحول الناس من فاعلين في الحياة او صانعين للحياة ، الى كومبارس في فرقة موسيقية ، دورهم الوحيد هو ترديد ما يقوله الرئيس/المايسترو.

لا ينبغي الظن بأن هذا مصير كل حركة نهضوية. فلدينا تاريخ البشرية كله ، شاهد على أن غالبية التجارب النهضوية ، انتجت حضارات او شاركت في انتاج مسارات حضارية. ولولا ان معظمها نجح وأفلح ، لما كنا نستمتع اليوم بعالم متطور تكنولوجيا ومتطور قانونيا وانسانيا. في تجربة الهند واليابان والولايات المتحدة وغيرها ، أمثلة ناصعة على قابلية المجتمع لتوليف حراك جمعي ، رغم كثرة الاختلاف بين اطيافه ، وفيها أيضا دليل على قابلية المجتمع الناهض ، للحفاظ على التوازن الضروري بين بروز الذات الجمعية من جهة ، واحترام استقلال الأفراد من جهة ثانية.

زبدة القول انه ليس مستبعدا ، ان يتحول النهوض الاجتماعي الى محرقة للحريات العامة وحقوق الانسان. لكن تجربة الانسانية التي كشفت لنا عن هذه الامكانية ، أكدت لنا ايضا ان معظم التجارب انتهت الى نتائج سعيدة للانسان وعالمه.

أبرز ما نستخلصه من تلك التجارب ، هو الترتيب الموضوعي بين المقصد الاساس ، اي النهضة ، وبين النواتج الجانبية المحتملة ، مثل الاستبداد وقمع الحريات العامة. لا ينبغي بطبيعة الحال التهوين من خطورة هذا الناتج. لكن علينا ان لا نغفل ايضا حقيقة انه يأتي في المرتبة الثانية ، فلا يصح التردد في المشروع النهضوي خوفا من الاحتمالات السلبية المصاحبة له.

الشرق الأوسط الأربعاء - 5 شهر رمضان 1443 هـ - 06 أبريل 2022 مـ رقم العدد [15835]

https://aawsat.com/node/3574801

 

مقالات ذات علاقة

احتواء التحدي وتحييده

اخلاق المدينة وحدودها

استنهاض روح الجماعة

اعادة بناء الاجماع الوطني

انهيار الاجماع القديم

حول الاجماع الوطني

مقدسات التغيير

مقدسات التغيير: مراجعة أولى

من الكويت الى نيوزيلندا: "هذولا عيالي..."

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

30/03/2022

مقدسات التغيير: مراجعة أولى


ولدت هذه الفكرة بعدما قرأت عتابا للصديق عبد العزيز بن حمد ، على "تويتر" ، منصة التدوين القصير المشهورة. وفحوى ذلك العتاب ان كاتب هذه السطور وعد تكرارا بالعودة لاستكمال فكرة ناقصة ، في مقال آخر ، لكنه لم يفعل. ومن أبرز ما حضرني اثناء قراءة هذا العتاب ، مقالة نشرتها في صحيفة الاقتصادية قبل 8 سنين ، وهي مستوحاة من رؤية المؤرخ المعروف أرنولد توينبي ، حول قابلية المجتمع لمواجهة التحديات الكبرى. وقلت يومها اننا بحاجة لتبني ثلاثة مبادئ ، بل رفعها الى مرتبة القداسة ، كي تكون دليلا لحركتنا نحو المستقبل. ووعدت في نهاية المقالة المختصرة بالعودة الى شرح الأفكار ، لكني – للانصاف – لم أرجع لها الا لماما أو عابرا.

سوف اخصص هذه المساحة للتذكير بالمبدأ الأول من مقدسات التغيير ، وهو  تعزيز الايمان بالذات الجمعية. وخلاصته اننا – كمجموع – قادرون على حل مشكلاتنا بأنفسنا ، قادرون على تجاوز خلافاتنا والانصهار في بوتقة فكرة قائدة ، هي فكرة التقدم. بل نحن قادرون أيضا على منافسة الآخرين الذين تقدموا علينا ، في بعض الجوانب على الأقل ، بما يقيم نوعا من التوازن النفسي ويعزز الثقة في الذات.

لا أظن أحدا يخالف هذه الفكرة. فنحن نسمعها من عشرات المتحدثين ، بين حين وآخر. لكننا مع ذلك لا نشعر اننا نسير حثيثا في طريق التقدم. هذا على الأقل ما تلمسه من مقالات الصحافة المحلية ، ومن تعليقات الناس في منصات التواصل الاجتماعي.

والذي أظن ان الفكرة السابقة ككل ، غير واضحة في أذهان غالبية الناس. فهناك أولا اختلاط هدف التقدم ، باعتباره الغاية الأسمى للنظام الاجتماعي ، مع الأهداف الصغيرة او الآنية ، مثل عدم توفر وظائف للجميع ، غلاء المعيشة ، ضعف مستوى الخدمات البلدية.. الخ. ان انشغال الناس بأمثال هذه المشكلات يحملهم على الاعتقاد بان التقدم الذي يذكرونه ، ليس له معنى غير علاج تلك المشكلات. واضافة الى هذا ، فهناك من يلخص فكرة التقدم في الرفاهية ، التي تعني مزيدا من المال والاستهلاك وتجميل مرافق العيش.

لعل اقرب نموذج عملي لفكرة التقدم (في التجربة السعودية على الأقل) هي "رؤية 2030" والبرامج العملية المساندة لها.  وهي مخطط ضخم جدا ، اعتقد أنه سيغير وجه الحياة في المملكة ، حتى لو انجز نصف المشروعات المخططة في إطاره فقط.

وضعت "رؤية 2030" على ضوء نظرية التنمية الكلاسيكية ، التي تربط النمو الاجتماعي المتعدد الجوانب بالمحرك الاقتصادي. ومن هنا فان غالب مشروعاتها تندرج ضمن نسق تحديث الاقتصاد ، وهو ايضا المبرر الرئيس للدور المحدود - نسبيا – للمجتمع الأهلي في سياسات "الرؤية" ومشروعاتها.

خلال الاعوام الثلاثة الأخيرة ، لاحظت اهتماما أكبر بدور المجتمع الأهلي ، ولا سيما في مساندة التحولات الثقافية المرافقة لتطور مشروعات "الرؤية". لكن المسافة لازالت شاسعة بين الواقع الراهن والدور الذي ينبغي للمجتمع ان يؤديه في دعم الرؤية وحمايتها.

في اعتقادي ان انفعال المجتمع بهدف "التقدم" ، وتبنيه لعناصره ومفاهيمه ، هو السبيل الوحيد كي يتحول المجتمع من متفرج على برامج الانماء ، الى شريك فاعل في انشائها وحمايتها وتطويرها. المجتمع الذي نتحدث عنه هو الجماعة الوطنية ، اي كافة المواطنين باعتبارهم أمة واحدة ، هذا يفهم وفقا للقول المشهور "التعدد في اطار الوحدة الوطنية" اي هوية جامعة تحتضن بين جناحيها هويات قومية ومذهبية ودينية وثقافية متباينة ، تتفاعل ولا تتزاحم.

الشرق الأوسط الأربعاء - 27 شعبان 1443 هـ - 30 مارس 2022 مـ رقم العدد [15828]

https://aawsat.com/node/3561826/

 

مقالات ذات صلة

 اختيار التقدم

استنهاض روح الجماعة

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

حول برنامج التحول الوطني

خطباء وعلماء وحدادون

 شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

الطريق الى 2030

عجلة التنمية المتعثرة

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

كيف نتقدم.. سؤال المليون

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

13/05/2020

"الفرج بعد الشدة"


||ما تحدثه الاوبئة من فتك بالبشر، ومن فوضى واضطراب في نظام العالم، تولد شعورا قويا بالحاجة للتغيير، اي ابتكار بدائل عن نظم عجزت عن احتواء تحدي الوباء او غيره ||

بعض القراء اطلع بالتأكيد على كتاب "الفرج بعد الشدة" للقاضي المحسن بن علي التنوخي الأنطاكي (939-994م). الذي أراد تعزيز الأمل والتفاؤل ، من خلال تهوين مصائب الدنيا ، وبيان ما يحصل من يسر وسعة بعد الشدائد. وللكتاب شعبية واسعة بين الخطباء والمتحدثين ، لكثرة ما فيه من قصص طريفة. وقد أصاب التنوخي ما قصده ، فتاريخ البشرية يشهد ان كل شدة لابد ان تفضي الى فرج.
بعد هذا التمهيد اقول: ان حديث اليوم لايجاوز هذا الاطار. لكني لا أقصد تهوين الأمور وان بدت في السياق على هذا النحو. وموضوعنا كما هو واضح ، عن حال العالم بعد انقشاع جائحة كورونا.
من ضروب المبالغة الادعاء ، بان أحدا يعرف تماما كيف سيكون العالم بعد سنة او اقل أو اكثر. بديهي ان الخبراء في كل مجال ، سيواصلون التأمل في البيانات المتوفرة ، وسوف يضعون توقعات لما قد يحدث. لكن أحدا منهم لن يغامر بالقول ان تلك التوقعات علم قطعي.
لعل قارئا يسأل مستنكرا: طالما ان الامر لايتعدى توقعات غير حاسمة ، وقد لايعتمد عليها في اتخاذ قرارات أو تحريك موارد ، فما الداعي للاحتفاء بها ، ولماذا نصرف الجهود والاموال على التحليل ووضع الاحتمالات؟.
في الجواب على هذا التساؤل ، يكمن سر المعرفة والتقدم. فلو راجعت ابرز التحولات التي مر بها العالم على صعيد الاقتصاد والصحة والعلوم ، لوجدت ان معظمها جاء بعد كوارث مخيفة. كمثال على هذا فان النصف الاول من القرن العشرين ، شهد ظهور النماذج الاولية والمعادلات الأساسية ، لمعظم الاجهزة التي نستعملها اليوم ، وكذلك الادوية التي نتعالج بها ، والقواعد العلمية التي نعتمدها في شتى ابعاد حياتنا. في العموم فان ما أنجزه العالم في هذه الحقبة ، تجاوزت ما حققه خلال القرون الاربعة السابقة جميعا.
لكنا نعلم ايضا ان هذه الحقبة نفسها ، أي النصف الاول من القرن العشرين ، هي الفترة التي شهدت اضخم الكوارث ، التي سجلها تاريخ البشرية في القرون الخمسة الأخيرة. ومن بينها مثلا الاوبئة التي ذهب ضحيتها ما يزيد عن 150 مليونا ، والحروب الكونية التي قتل فيها نحو 60 مليونا ، اضافة الى موجات الكساد التي ضربت اقتصاديات العالم شرقا وغربا ، ولاسيما كساد العشرينات الذي أدى الى هجرات واسعة ، وموت عشرات الآلاف جوعا.
ثمة محركات عديدة تقف وراء البحث العلمي والاختراع. لعل اقواها شعور الانسان بحاجته الماسة للسيطرة على اقداره ، اي التحرر من اسر الطبيعة وتجاوز قيودها ، وادارة حياته وفق ما يريد ، لا وفق ما هو مضطر اليه بسبب قلة حيلته او قصور امكانياته.
ما تحدثه الاوبئة من فتك بالبشر ، وما تؤدي اليه من فوضى واضطراب في نظام العالم ، تولد شعورا قويا بالحاجة الى التغيير والتطوير ، اي ابتكار بدائل عن نظم سائدة ، كشف الوباء عن ضعف استجابتها لحاجات البشر، او صنع تجهيزات ظهرت حاجتنا اليها ، او طرق عمل ومناهج كانت مستبعدة في الماضي وظهر انها ممكنة ، بل ربما ظهر انها اكثر فائدة مما ظنناه.
هذي ببساطة هي الحلقة التي تربط بين الشدة التي يعبر عنها الوباء ، وبين الفرج الذي يلوح وراء جدران الزمن والغيب ، ويدعو الانسان للبحث والمحاولة كي يشق حجابه ويقبض عليه. دعنا نؤمل خيرا ، فوراء العسر يسر وفرج وربما عوض عن كل ما فات.
الشرق الاوسط الأربعاء - 20 شهر رمضان 1441 هـ - 13 مايو 2020 مـ رقم العدد [15142]

مقالات ذات صلة


24/10/2018

كيف نتقدم.. سؤال المليون

من اسرار التخلف ، قطيعتنا الذهنية مع الطبيعة ، غفلتنا عن استثمار الموارد العظيمة التي تزخر بها ارضنا وسماؤنا وبحرنا وانفسنا. وبالمثل فإن أحد أسرار التقدم ، هو العودة لفهمها والتفاعل معها على نحو بناء.

ظهرت الطبعة الاولى من كتاب الامير شكيب ارسلان "لماذا تاخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم" في 1940. ورأيت له طبعة جديدة صدرت في 2008. بين هذين العامين ، طبع ما لا يقل عن عشرين مرة ، الامر الذي يجعله واحدا من اكثر الكتب العربية شهرة. وهو لايزال موضع اهتمام بين الباحثين وعامة القراء على السواء. 
(1869-1946)  شكيب ارسلان
 لم يقدم ارسلان تحليلا عميقا عن أسباب تخلف المسلمين. كما لم يفسر لقرائه اسرار تقدم الغربيين. أن إجاباته لا تختلف في الحقيقة عن التصورات الانطباعية التي يتداولها عامة الدعاة والمتعلمين ، والتي تنسب التخلف في الغالب إلى قصور أخلاقي ، تعاضد مع شيوع اللاعقلانية ، في المجتمع المسلم. وهي بالتأكيد عوامل صحيحة ، لكنها لا تقدم تفسيرا علميا ، يمكن الاتكاء عليه فيما لو أردنا الانتقال إلى المرحلة التالية ، اي سؤال: ما العمل.
أن السر وراء الشهرة التي حظي بها كتاب المرحوم ارسلان ، تكمن في السؤال الذي اختاره عنوانا لكتابه. فهو أشبه بما يسمى عند التراثيين "حديث النفس" ، اي ذلك الهم الذي شغل أذهان المسلمين جميعا ، في مرحلة من مراحل حياتهم.
لا ادري إن كان المسلمون فردا فردا قد انشغلوا حقا بالتفكير في هذا السؤال. لكني واثق أن الغالبية العظمى من متعلميهم ، قد سمع به أو توقف عنده ، في وقت ما. ونعلم طبعا أن بعضهم قد جادلوا حوله أو حاولوا الاجابة عليه.
 نعلم أيضا أن السؤال مازال مشرعا. لأننا لم نتوصل الى جواب شاف. والحق أن هذا سؤال المليون كما يقال. لأن جوابه في غاية التعقيد. انه أوسع من مجرد تحليل علمي. وهو ليس مجرد نظرية في ادارة الموارد ، مثل نظريات التنمية الاقتصادية والسياسية مثلا. بل فكرة نهضة ، تستلزم – إضافة إلى نظرية التقدم المتعددة الابعاد – ظرفا نفسيا عاما ، يسمح بانعتاق الجمهور من هموم الحاضر وأزماته والانخراط في مغامرة النهضة. الظرف النفسي يتمثل فيما يمكن وصفه بروحية النهضة ، التي نعرف انها كانت وراء نهضة بريطانيا في العصر الفيكتوري (١٨٣٧-١٩٠١) وألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الأولى ، ثم الصين بعد ١٩٨٠.
ذكرت هذه الاقطار بالخصوص ، للتأكيد على أن النهضة ليست رهنا باتفاق المسلمين. وانه لا يمكن لأي عدو إعاقة النهضة اذا تحلى اصحابها بالإرادة والإصرار ، والاستعداد للتضحية في سبيل مستقبلهم. الأقطار التي ذكرتها نهضت بمفردها وسط محيط سياسي غير مساعد.
تحتاج النهضة في مراحلها الأولى ، إلى تكلف وجهد نفسي ومادي باهظ. أما التالية فتاتي سلسة وسريعة ، مثل كرة ثلج تتدحرج من أعلى الجبل.
منطلق النهضة هو تصور المستقبل والايمان به. ولا يمكن للمستقبل الا أن يكون مختلفا ، بل ونقيضا للحاضر ، فضلا عن الماضي. ثم إن التضحيات المطلوبة ليست مادية حصرا. أشدها صعوبة هي التضحية بما اعتبرناه مسلما وبديهيا في رؤيتنا للطبيعة والعالم المحيط بنا.
أحد عوامل التخلف هو قطيعتنا الذهنية مع الطبيعة. وبسببها غفلنا عن استثمار الموارد العظيمة التي تزخر بها ارضنا وسماؤنا وبحرنا وانفسنا. وبالمثل فإن أحد أسرار التقدم ، يكمن في العودة لفهمها والتفاعل معها على نحو بناء.
اني واثق ان جميعنا يتطلع الى مستقبل مختلف تماما عن حاضرنا. لكن السؤال الذي يجب ان نواجه به انفسنا دائما ، هو : ما هي الفكرة التي يمكن لها ان تكون بمثابة صاعق التفجير للطاقات والعزائم والارادة العامة الضرورية لاطلاق النهضة؟.
الشرق الاوسط الأربعاء - 14 صفر 1440 هـ - 24 أكتوبر 2018 مـ رقم العدد [14575]
https://aawsat.com/node/1436101

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...