بعض الذين قرأوا مقال الاسبوع الماضي ، رأوه مغاليا في القول بامكانية التخلي عن ارثنا الثقافي لتجاوز حالة التخلف. وتساءل بعضهم صراحة: هل يعقل ان نتخلى عن ذاكرتنا الثقافية ، لمجرد ان المجتمعات الأخرى تجاوزتنا في الصناعة والتقنية والاقتصاد. فماذا لو لقيت شخصا أغنى مني أو أعلم ، فهل أتخلى عن ثقافتي كي الحق به أو اصير مثله. ولنفترض اننا تخلينا عنها ، فهل سيتبدل حالنا فنصبح مثل المتقدمين ونخرج فورا من مستنقع التخلف؟.
على ان السؤال الأكثر حرجا هو سؤال الالتزام بالدين
او التخلي عنه ، فالمفهوم عند السواد الاعظم من الناس ، ان الدعوة للتخلي عن
التراث او القطيعة معه ، ستؤدي بقصد او دون قصد الى انفصال المؤمنين عن ثقافتهم
الدينية ، الضرورية للحفاظ على الدين نفسه.
دعني اجيب على هذه المخاوف التي اتفهمها واحترمها ،
رغم مخالفتي لاصحابها. اتفهم ان لا احد سيقبل دعوة كهذه من دون توقف طويل. ولذا
فقد يكون مفيدا شرح اثنين من العوامل التي تولد تلك الاسئلة القلقة ، وهما الخوف
على الهوية والخوف من خسارة الذات.
ان ابرز العوامل التي تبرر الانعزال الثقافي ورفض
النقد الذاتي ، هو الاعتقاد بأن الانفتاح على المخالفين ، سيثير الشك في صلابة
الهوية ، والارضية التي تقوم عليها. الهوية هي الخيط الذي يربط اعضاء المجتمع او
الأمة الى بعضهم ، فتضفي عليهم لونهم الثقافي الخاص ، اي شخصيتهم المتمايزة عن
الآخرين ، كما تضفي الشرعية/القبول على طائفة من الأفعال والممارسات الاجتماعية ، وتنزعها
عن طائفة أخرى ، فتجعلها مدانة او مرفوضة.
ومن هنا فان التشكيك في الهوية ومصادرها
(الدين/التجربة التاريخية/الارث الثقافي/اللغة/سلاسل النسب) سيؤدي ليس فقط الى
تغيير الثقافة العامة ، بل قد يصل أثرها الى تفكيك او اضعاف النظام الاجتماعي ومجموعة
الاعراف المنظمة لسلوك الافراد.
اما الخوف من خسارة الذات ، فهو يشبه – في وجوه
كثيرة – تجريد الشخص من جنسيته ، أي انتمائه القانوني الى بلد بعينه. فمع ان هذا
الاجراء لا يغير شيئا في ذات صاحبه ، الا انه يفصله عن دائرة مصالح/انتماء تشكل
محورا لتعريف نفسه ، ومن دونها سيشعر بالغربة وربما الضياع ، واذا كان ذا مكانة في
قومه ، فان هذا التحول سيطيح بتلك المكانة او يضعفها كثيرا.
لهذين السببين ، فليس من السهل ان يقدم الانسان على
حوار مع مخالفيه ، يؤدي – ولو من باب الاحتمال – الى استبدال ثقافته بثقافة
المخالف ، او خروجه من دائرة المصالح/الانتماء التي ولد فيها وتربى في احضانها. هذا
هو الذي يجعل نموذج السوبر ماركت ، اي الانتقاء من ثقافة الاخرين بناء على معايير ثقافتنا
الخاصة ، يجعله الخيار الممكن لغالب الناس.
لكني أدعو الى خيار مختلف ، محوره هو تحكم الانسان
في مكونات ذهنه ، اي ان يجعل عقله حاكما على ذاكرته ، فيمارس نقده لتلك المكونات
بناء على معايير الاخر المختلف. في هذه الحالة نضع الآخر معيارا ، وننقد الذات ،
بخلاف نموذج السوبرماركت الذي يضع الذات معيارا ويمارس نقده على الآخر.
ممارسة هذه العملية تحررك من قيود التاريخ والهوية
، تجعلك متحكما – الى حد ما – في الذي تقبله والذي ترفضه. لكنك مع ذلك ستبقى ضمن
موقعك الثقافي القديم ، فتتحول الى متخارج عنه ، اي متفاعل معه من خارجه. في هذه
الحالة ستنظر الى هذا التراث وتلك الثقافة من خارجها ، رغم انك – واقعيا – في
داخلها ، اي ستعمل على وضح خط فاصل بين قناعاتك ومعاييرك وبينها ، فتختار منها ولا
تغرق فيها. اذا نجحت في هذه المرحلة ، فسوف تكون كذلك بالنسبة لثقافة الاخر ،
متداخلا معها ، لكنك لست في داخلها.
الشرق الاوسط الخميس - 05 شَعبان 1445 هـ - 15 فبراير 2024 م https://aawsat.com/node/4855066
مقالات ذات صلة
ان تكون مساويا لغيرك: معنى
التسامح
التواصل الثقافي ،
موديل السوبر ماركت
الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة
( 2 من 3 )
قادة الغرب يقولون
دمروا الاسلام ابيدوا اهله