22/01/2020

العافية مما ابتلاهم


معظم الذين درسوا التجربة اليابانية ، تحدثوا عن التحرر من "العقد الثقافية" كنقطة انطلاق لنهضة اليابان المعاصرة. وقد عرضت في مقال سابق رأي البروفسور نجم الثاقب خان في هذا الصدد. وهو رأي معتبر لاستاذ في الاقتصاد ، عمل سفيرا للباكستان في طوكيو ، فطالع التجربة عن قرب.
World War II officially ends.... - RareNewspapers.com


"العقد الثقافية" هي السر في تخبط الأمة الاسلامية في هذا العصر. لقد فشلت كل محاولات التسوية بين التراث والحداثة ، بين الزامات التاريخ والحاضر ، بين انماط التفكير القديمة واختها الجديدة. وما عاد امامنا غير طريقين: اما التفرغ لحراسة المقابر والمتاحف والمكتبات القديمة ، او تبني الحداثة بكل ما فيها ، من فلسفة وعلم وتقنية ، واقتصاد ومصادر انتاج ، وقيم سياسية واجتماعية وانماط معيشة.

يجب ان نعترف – لا نفسنا على اقل التقادير – بان تلك المحاولات التي استغرقت عقودا من الزمن ، وكلفتنا جبالا من المال وانهارا من الحبر ودماء غالية ، لم تؤد لاحياء القديم ، كما لم تسهل علينا الانتقال الى العصر الحديث ، بل نقضت غزلنا وأضعفت عزمنا ، فأمسى طلب السلامة غاية أملنا ، بعدما كنا نمني انفسنا بالتنافس مع اكثر المجتمعات تقدما.
اما وقد وصلنا الى هذه النقطة ، فقد وجب القول ان من اقوى تلك العقد واشدها ثباتا ، "الوثوقية" اي ما يسميه اهل الفقه براءة الذمة ، وقد نسميها الشعور بالاكتفاء والاستغناء ، بل التفوق على الغير. اني اجد عشرات من المساكين ، الفقراء في المال والعلم ، يرددون كالببغاوات ، قولا مثل  "الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم" وهو قول ينطوي على ادعاء السلامة من الخطأ والفوقية على الغير ، وان الله اراد له هذا ، مع ان القائل قد يكون ادناهم علما او مالا او مكانة. فيا ايها المسكين اين انت مما يملك الغرب والشرق من العلم والتقنية والمال والقوة والنظام ، وما الذي تدعي ان الله قد عافاك منه؟.
نعلم ان مبرر هذا الادعاء ، هو الاعتقاد بأن من صلحت عقيدته ، فهو خير من غيره. لكن من يقول ان عقيدتك صالحة ، ومن يقول ان صلاح العقيدة مانع من ان تكون افشل الناس وأجهلهم ، ومن يقول انها مبرر  سليم للتفاضل بين الخلق.
قبل الحرب الكونية الثانية ، كانت الأمة اليابانية تؤمن ايمانا راسخا بانها خير امم الارض واشرفها واطهرها. لكن هزيمتهم المذلة في العام 1945 امام الجيش الامريكي ، كانت الجرح الذي نفذ منه نور الحقيقة ، فادركوا أن العالم قد تجاوزهم في العلم والتقنية. وقد انعم الله عليهم بشجاعة الاقرار بالقصور ، فتحرروا من أوهام العظمة والارتهان الى الماضي ، واستوعبوا سنة الله في الذين خلوا من قبل: من أخذ بسنن النصر فهو منتصر ، ومن استراح لاوهام العظمة فهو مهزوم. وهذه السنن متاحة لكل خلق الله ، ايا كانت اديانهم واعراقهم.
كل واحد منا ، من اهل العلم ومن عامة الناس ، وكذا اهل المال والقوة ، مكلف بالعمل للاقلاع من وهدة التخلف ، والالتحاق بحضارة العصر. اول هذا الطريق هو التخلص من "العقد الثقافية" التي تحتل عقل الانسان وتحجبه عن العالم الحقيقي ، وابرزها الاعتقاد بالتفوق على الغير او الاستغناء عنهم. النقص في حياتنا اجلى من الكمال ، وحري بنا ان ندعو الله كي يعيننا على التعافي مما ابتلانا ، بدل ادعاء السلامة من بلاء الاخرين.
الشرق الاوسط الأربعاء - 26 جمادى الأولى 1441 هـ - 22 يناير 2020 مـ رقم العدد [15030]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...