انه
شريط فيديونشر الاسبوع الماضي على الانترنت ، شريط لا يصل طوله ثلاث دقائق ، يوجز الفارق
بين حرية التفكير التي ينبغي ان تكون مطلقة ، وحرية الفعل والسلوك التي ينبغي ان
تلتزم حدود القانون. ردود الفعل على هذا الشريط كشفت لي ان قيمة رفيعة مثل الحرية
لازالت غريبة في ثقافتنا العامة. ولذا لا يبعد ان ترى اناسا يديرون رؤوسهم قائلين:
ولكن الحرية مفهوم غير واضح .. فما هي الحرية التي تقصدها؟.
هذا
القول مما ينطبق عليه عنوان "المضحك المبكي".. فمن الذي لايعرف معنى
الحرية في هذا العالم ، لاسيما في هذا العصر؟.
لكن
هذا يهون حين تقرأ لاستاذ جامعي بارز قولا فحواه ان حرية التفكير مثل حرية السلوك ،
يجب ان تحكمها قواعد. ويستدل على هذا بأن
جماعة متعصبة مثل "داعش" انحرفت أولا على المستوى الذهني ، ثم تمظهر
انحرافها في السلوك اليومي.
لقد
لاحظت تكرار ا ان النقاش حول قيم عليا ، كالمساواة والحرية والنظام ، يستدرج سريعا
نقائض متخيلة من زاويتين: زاوية تتعلق بتطبيق هذه القيم في الغرب. فكأن المعترض
فهم ان الكلام عن المساواة مثلا ، هدفه تقليد نمط العيش الاوربي. وهذا بدوره
يستدعي أزمة الهوية والعلاقة المتازمة بين المسلمين والحضارة الغربية. اما الزاوية
الثانية ، فتتمثل في السؤال الأبدي المضمر ، الذي فحواه: اذا كانت المساواة قيمة
طيبة فلم أمر الاسلام بخلافها ، واذا كانت الحرية امرا طيبا فلم نرى ان الدعوة
اليها تأتي من الغرب ، بينما يعارضها المسلمون؟.
أقول
ان هذا سؤال مضمر. لأن الغالبية تدرك انه غير معقول. فعدم معرفتنا سابقا بهذه
القيم ، او عدم اكتراثنا بها ، لايعني انها معيبة. انهم يدركون حقا انها قيم رفيعة
، لكنهم لايشعرون بالارتياح النفسي لها بذاتها ، كما لا يرتاحون لفكرة ان يتقبلوا
دعوة قادمة من الغرب ، وكان بالامكان ان تأتي من داخل تراث المسلمين ، كي تكون امتدادا
لنفس النسيج ، لاعضوا غريبا يجري اقحامه كيفما اتفق.
احتمل
ايضا ان عدم ارتياحنا للحديث حول الحرية والمساواة وأمثالها من القيم ، مرجعه خوف
دفين من فقدان النظام القيمي ، الذي نتخيل ان سنده الوحيد هو التوزيع الموروث
للسلطة في المجتمع: الاباء والامهات بالنسبة لابنائهم والرجال على نسائهم وهكذا.
هذا
الموقف مدعوم ثقافيا بكم ضخم من التوجيه الايديولوجي ، تلقيناه خلال الربع الاخير
من القرن العشرين ، على يد الموجهين والاساتذة الذين تولوا دفة التعليم والثقافة
في بلادنا. وقد استهدف هذا التوجيه بصورة متعمدة ، تأكيد النظام الابوي في المجتمع
، وتعزيز منظومة قيمية تستهدف عن قصد ، تعميق أوجه التناقض مع المجتمعات الصناعية.
والمبرر في هذا هو خوف التأثر بالأمم الغالبة ، على النحو الذي قرره عبد الرحمن بن
خلدون في مقدمته الشهيرة.
اختتم
هذه الملاحظات بالاشارة الى حاجتنا لتعميق معرفتنا بالقيم الرفيعة في حياة البشر ،
مثل قيمة الحرية والمساواة والعدل وحقوق الانسان والتراحم والنظام ، وامثالهم ، وذلك
بجعلها موضع نقاش لا يتوقف ، من اجل ان نعزز في أذهاننا وفي نفوسنا جميعا ، الاسس
الكبرى التي تقوم عليها الحياة الانسانية الكريمة ، والعلاقات البناءة في داخل
المجتمع ، وبين مجتمعنا ونظرائه.
نحن
بحاجة حقا الى هذا النقاش ، كي لا نتأخر عن مسيرة البشرية فوق ما تأخرنا حتى الآن.
الشرق الاوسط الأربعاء - 10 ذو القعدة 1441 هـ - 01 يوليو 2020
مـ رقم العدد
[15191]