29/06/2016

ايزايا برلين

كان ايزايا برلين في العقد الاخير من عمره ، حين قدم ما اعتبره خلاصة لتأملاته في الحياة. يوم توفي في 1997 قالت الصحافة البريطانية ان برلين كان واحدا من أفضل المتحدثين غزارة في المعلومات وقدرة على ربط الافكار والتحليل الفلسفي للمشكلات.

ايزايا برلين

في محاضرة القاها سنة 1988 قدم ايزايا برلين رؤية يقول انها تشكل الخيط الذي يجمع بين تأملاته لما يزيد عن ستين عاما ، بدءا من قراءته الأولى لرواية ليو تولستوي المشهورة "الحرب والسلم". تتعلق هذه الرؤية بالدوافع الكامنة في اعماق النفس الانسانية ، والتي تجعل البشر يرتكبون اعظم الآثام ، ثم يكررونها مرات عديدة. لكنهم في نهاية المطاف يتمردون على ميلهم الغريزي للاثم والعدوان ، كما يتمردون على نوازع اليأس والاحباط والسخط ، ليتجهوا - من ثم – الى طريق الصلاح والاصلاح. 

عاصر برلين الظروف القاسية لاوربا خلال الحربين العالميتين الاولى والثانية ، ورحل من مسقط رأسه وهو شاب يافع. وكان عاشقا للرواية الكلاسيكية ، سيما كتابات الأدباء الروس التي اتسمت عموما بوصف مشاهد المعاناة والألم في المجتمعات الفلاحية والهامشية. وكان جديرا به ان يميل الى التشاؤم من الطبيعة البشرية. لكنه بدل ذلك نظر الى الصورة الكاملة. وهذا شأن الأذكياء الذين لا يتوقفون عند النقاط السوداء في مسيرة عمرها الاف السنين.

لو نظر برلين الى العالم من زاوية آلامه الخاصة او حتى آلام وطنه وقومه ، لانشغل بالعزاء عليهم او البحث عن معايب اعدائهم. لكنه بدل ذلك نظر الى الصورة الكاملة ، فاكتشف حقيقة ان البشرية تنتكس أحيانا ، لكنها تعود دائما الى الطريق القويم. بل ان معظم الاختراقات العظيمة التي حققها الانسان خلال تاريخه الطويل ، كانت ثمرة لتلك الانتكاسات.

نعرف ان الاختراقات الأولى في مجال الفلسفة ، ولدت في رحم الحروب الدينية التي تورطت فيها اوربا ، لما يقرب من مئة عام. كما ان بواكير التقدم الهائل الذي يعرفه عالم اليوم ، في مجال المواصلات والاتصالات والالكترونيات والاقتصاد والقانون ، ولد في رحم الحربين العالميتين الاولى والثانية. فكأن الطبيعة الخيرة للبشر تأبى الا ان تستدرك آثامها وانزلاقاتها الكارثية ، فتعود لتصلح ما كان سببا في تلك الآثام.

لا نعرف في الحقيقة كيف سيكون عالمنا ، لولا القانون الدولي الاخلاقي الذي يحمي المدنيين في ظروف الحرب ، ويعاقب على جرائم الحرب والابادة الجماعية والتعذيب. ولا نعرف كيف ستكون حياتنا لولا السيارات والطائرات والسفن العابرة للمحيطات واجهزة الاتصال والانترنت. ربما كانت البشرية قادرة على التوصل الى هذه المنجزات بطريقة أو بأخرى. لكن الذي نعرفه فعليا هو ان هذه جميعا كانت – بصورة أو بأخرى – رد الانسان على انزلاقه الى الحرب على أخيه الانسان. ربما نعتبرها اعتذارا غير مباشر من جانب الأنا العليا العاقلة السامية ، عن آثام الأنا الدنيا الغريزية المجنونة أو السفيهة.

رأى برلين ان جوهر الكائنات البشرية يكمن في قدرتها على اختيار طريقة للعيش تتلاءم مع حقائق الكون الذي نتشارك الحياة فيه ، والتوصل من وراء هذا الايمان الى التجسيد الأمثل لمقتضيات الفطرة الطيبة التي تشكل ذات الانسان الاصيلة ، قبل ان تتلوث بالمنغصات والنزاعات واسباب القلق.

جوهر انسانية الانسان تكمن في قدرته على التحرر من قيوده ، كما ان عقلانية العقل تكمن في قدرته على العبور من حدود ذاته ، الى ما يختفي وراءها من غيوب واحتمالات لا تسمح بها ظروف الواقع ، لكنها تظل حية وقابلة للادراك او على الاقل للتخيل.


الشرق الاوسط 29 يونيو 2016  http://aawsat.com/node/677336

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...