05/07/2016

مبررات الأمل وسط واقع مرير


لسبب لا اعرفه تذكرت هذا الاسبوع حرب رمضان المجيدة (اكتوبر 1973). كنت يومها في ‏المرحلة الثانوية ، شابا اكتشف لتوه متعة المتابعة اليومية للصحافة. تذكرت أيضا مقدار الفرح الذي ‏شعرت به وزملائي ونحن نتبادل المعلومات التي سمعوها من اذاعة لندن ، او قرأناها في الصحف ‏اليومية المتشابهة تقريبا (والمليئة بالاكاذيب على الارجح). كان لدينا كل يوم سبب اضافي للفرح: ‏استرداد اراض محتلة ، اسر جنود اسرائيليين ، سقوط طائرات او تدمير دبابات او غيرها. ورغم ‏ان الاذاعة الاسرائيلية وربما بعض الاذاعات الاوروبية ، كانت تنقل اخبارا معاكسة ، الا اننا احببنا ‏ان نصغي لصوت واحد فقط ، وان نغلق عيوننا وعقولنا عن كل ما عداه.‏

تمر علي ذكريات كثيرة جميلة عن "رمضانات" اخرى. لكن يستحيل ان ينافس اي منها رمضان ‏‏1393 في تحولاته اليومية التي لا تضاهى. ‏

لم اعرف سبب استذكاري لهذ العام بالتحديد. هل هي الاعلانات المتوالية عن غرق العشرات من ‏لاجئي القوارب في البحر المتوسط ، ام التفجير الذي حصد 120 مدنيا في بغداد ، ام التفجير ‏الارهابي الفاشل في جدة يوم الاحد ،  ام الكشف عن عصابة تفجير المساجد في الكويت ، ام انتهاء ‏عملية احتجاز الرهائن في العاصمة البنغالية دكا ، بعد قتل 20 من الرهائن.‏

المؤكد ان التناقض الشديد بين التخيلات والمشاهد الواقعية ، وربما التفكير في مآلات تلك الحوادث ‏، تستفز الذاكرة وتبعث ذكريات دفنت منذ ازمان بعيدة. او لعلها محاولة في اللاوعي لتفادي الاقرار ‏بالعجز عن تكوين موقف فعال يوقف شلالات الدم والالم التي تحاصرنا شرقا وغربا.‏

هناك اكثر من احتمال بالتأكيد. لكن لسبب ما ، وجدت الاحتمالات المتشائمة اكثر الحاحا من اختها ‏المتفائلة على ذهني. اني اتساءل في هذه اللحظة: لماذا لم تتوارد الى ذهني الاحتمالات الطيبة: مثل ‏احتمال ان يكون استذكار نصر اكتوبر 1973 تذكيرا لي ولأمثالي بان سواد هذه الايام ليس ‏نهاية  العالم ، وان الايام انما امست سوداء لان  سابقها كان خيرا منها. لولا الايام البيض لما ‏وصفت اختها بالسواد ، ولولا الفرح السابق لما عرفنا الحزن اللاحق.‏

ايا كان الحال. فاني أحاول استبعاد التفكير السلبي وذكريات البؤس والالم ، التي لا استطيع مساعدة ‏اصحابها ، ولا استطيع احتمال رؤيتها أيضا. لقد انتهى رمضان بذكريات افراحه الغابرة وأليم ‏أتراحه الحاضرة. واشرق علينا عيد اراد الله ان نشعر فيه بالفرح والتفاؤل. مهما كان الحال ‏عصيبا.‏

نتبادل التهاني في العيد ، ليس لان اوضاعنا مبشرة ، بل لأن علينا الاقلاع من ظرف التشاؤم. لا ‏يمكن تغيير واقع سيء ما لم تؤمن ببديل افضل منه. لا تستطيع العبور من حالة الانحطاط ما لم ‏تشعر بالقدرة على كسر آلامه وقيوده ، واعتناق نقيضه.‏

نتبادل التهاني في العيد اذن ، كي نذكر بعضنا بعضا بقدرتنا ، قدرة الانسان ككل ، على نقض ‏الواقع الفاسد واستبداله. سوف ننتهي من هذه الالام يوما ما ، وان لم نستطع فسوف نقاتلها باستعادة ‏ذكريات الفرح وان كانت ناقصة. كل عام وانتم بخير.


الشرق الاوسط  5 يوليو 2016  http://aawsat.com/node/682331

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...