مطالعة ما جرى في العراق خلال
الأسابيع الماضية ، تكشف عن مسألة تستحق الدراسة في السلوك السياسي للجمهور. الشهر
المنصرم تظاهر الاف العراقيين احتجاجا على الزعماء السياسيين والاحزاب المشاركة في
الحكم والمعارضة له على السواء. لكننا نعلم ان هذا الجمهور نفسه ، هو الذي صوت
لهذه النخبة في الانتخابات العامة التي جرت قبل بضعة اسابيع فحسب.
يمكن تفسير هذه المفارقة في
واحد من احتمالين: اولهما ان الذين تظاهروا ضد النخبة السياسية ، ليسوا هم انفسهم
الذين صوتوا لها في الانتخابات العامة. والثاني: انهم انفسهم – او على الاقل
اكثرهم – صوتوا لها ، لكنهم مع ذلك غير راضين عن عملها.
ترجيح الاحتمال الاول يقلل من
قيمة التظاهرات. لأن التنافس الديمقراطي يستهدف تحديد رأي الاكثرية ، وتحويل رأيها
الى مصدر للقرار. اذا فاز فريق بالاغلبية فعلى الخاسر تقبل النتيجة مهما كان رأيه
فيها. واحتجاجه لاحقا ليس ذا قيمة كبيرة.
لكني أرجح الاحتمال الثاني.
اي ان الذين تظاهروا هم ذاتهم – او نسبة معتبرة منهم – الذين صوتوا للنخبة الحاكمة
في الانتخابات.
يعزز هذا الاحتمال ان العراق
شهد في الأعوام الثلاثة الماضية احتجاجات شعبية متكررة ، تمحورت حول الفساد ،
البطالة ، وتدني مستوى الخدمات العامة. وبالرجوع لتقارير الصحافة العراقية بين
يوليو 2015 وابريل 2016 مثلا ، يمكن الاستنتاج ان المظاهرات الشعبية التي شهدتها
بغداد يومذاك ، كانت اضخم مما جرى في الشهر المنصرم.
معنى هذا ان العراقيين لم
يفاجأوا بتقصير النخبة السياسية. بدليل الاحتجاجات الواسعة عليها خلال السنوات
الماضية. كما لم يكن رجال النخبة مجهولين او خارج السلطة ، كي يقال مثلا ان الناس
خدعوا بهم او اغتروا بوعودهم. فقد كانوا في السلطة خلال السنوات الاربع الماضية
على الاقل.
لو كانت السياسة بسيطة ، لصوت
الجمهور ضد الوزراء والنواب الذين قصروا في أداء واجباتهم واخرجوهم من السلطة.
والحقيقة ان بعض السياسيين الجدد قد فهم الامر على هذا النحو ، فركز دعايته الانتخابية
على فشل الحكومة السابقة في تحسين الخدمات العامة ومكافحة الفساد. وطرح نفسه بديلا
لها. لكنه فشل في الحصول على كرسي في البرلمان.
السياسة ليست بسيطة. والواضح
ان الناس يفصلون – عن قصد او عن غفلة – بين الشخص وعمله. هذا هو السبب الوحيد الذي
يفسر الاحتجاج ضد اشخاص بعينهم ، ثم تفويضهم من جديد لشغل ذات المناصب.
اعتقد ان الناس يريدون حكاما
يعرفون اشخاصهم. وهذا يذكرني بالمثل المشهور "مجنون تعرفه أهون من عاقل لا
تعرفه". وتفسير هذا ان المعرفة تمنح قدرا من الاطمئنان. لاحظت ان هذا رائج
حتى في الديمقراطيات العريقة ، التي يركز المرشحون والناخبون فيها على السياسات
والبرامج اكثر من الاشخاص. لكن بنسبة اقل ، بسبب اتساع دور الاحزاب في هذه الدول ،
الامر الذي يجعل مكانة الشخص اقل مما هي في الدول النامية.
ما اردت الوصول اليه هو ان
مكانة الشخص ، لازالت مؤشرا رئيسيا للسياسة في المجتمعات النامية. وان الجمهور
يفضل في غالب الاحيان التصويت للشخص وليس لبرنامجه. ولهذا السبب ايضا فانه يعيد
تفويضه مرة بعد أخرى ، دون محاسبته على انجازاته وتقصيره خلال توليه السلطة.
هل لهذا علاقة بمكونات
الثقافة السياسية في هذه البلدان ، ام هو انعكاس لتازمات ظرفية او طويلة الامد ،
ام سببه المسافة الشعورية والمعرفية التي تفصل الجمهور عن الدولة؟.. كل من هذه
الاحتمالات وارد. ولعل هناك ايضا احتمالات غيرها.
الشرق
الاوسط أربعاء
- 19 ذو القعدة 1439 هـ - 01 أغسطس 2018 مـ رقم العدد [14491]
http://aawsat.com/node/1349076