‏إظهار الرسائل ذات التسميات النهج الفقهي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات النهج الفقهي. إظهار كافة الرسائل

19/10/2023

الناس شركاء في صياغة الحياة الدينية


ذكرت في مقال سابق انني مؤمن بان كل جيل من أجيال المسلمين ، له الحق في صياغة النموذج الذي يراه مناسبا للايمان والتدين في عصره. وان هذه القناعة تعني امكانية ان يكون لكل عصر نموذج في الحياة الدينية ، مختلف عن العصور السابقة.

وكنت قد طرحت هذه الفكرة قبل سنوات على أستاذ لي ، فأجابني بالقاعدة المعروفة في الفلسفة اليونانية "لكل سؤال صحيح ، جواب واحد صحيح ، ولا يمكن ان يكون اكثر من واحد". وتطبيق هذه الفكرة ان الشريعة مجموع اجوبة الدين على أسئلة الحياة ، لكل مسألة حكم واحد هو ما قاله الله او الرسول.

أظن ان معظم من يسمع هذا الكلام ، سيأخذه كأمر بديهي. لأنه يبدو معقولا ومطابقا لما تعلمناه منذ الصغر.

رغم ذلك ، فهو لا يمنع تساؤلات جدية ، أولها: من قال انه بديهي. واذا كانت الشريعة كاملة ناجزة منذ حياة النبي ، فلماذا اجتهد القضاة والائمة والفقهاء على امتداد القرون التالية حتى يومنا ، فابدعوا آلاف الاحكام والتفاسير التي لم يعرفها زمان النبي؟.

قد يظن القاريء العزيز ان دور الفقيه مقتصر على تطبيق الآيات والأحاديث على القضايا الجديدة. وهذا غير صحيح. لأن السؤال الجديد وليد ظرف جديد ، فيحتاج لاجتهاد في تحديد الموضوع ، واجتهاد في تحديد النص الذي يناسبه. وكلا الاجتهادين عمل بشري يعتمد قواعد العلم والمنطق. ونعلم ان عمل العقل محكوم بخلفية صاحبه ، الثقافية والاجتماعية ، فضلا عن المستوى العام للمعرفة في زمنه. واحيل القاريء الى ما نقله الدكتور حيدر اللواتي عن عدد من كبار المفسرين والمحدثين المسلمين ، الذين انكروا كروية الارض ، اعتمادا على آيات او أحاديث توحي بانها مسطحة (الرؤية 16 اكتوبر). فهؤلاء الأعلام افترضوا انه لا يمكن مخالفة النص ، حتى لو قام الدليل على مخالفة الواقع لمفاده. لا نتوقع طبعا ان يأتي مفسر او فقيه معاصر بمثل هذا ، لأن الزمن تغير. ان الافق التاريخي للناس (ومنهم صاحب الفكرة) يحدد طريقة فهم الموضوع وطريقة البحث عن جوابه. وبالتالي فان رأي الفقيه او المفسر الذي نظنه مطابقا لمفاد النص ، هو في الحقيقة فهمه الخاص او الفهم السائد في زمنه. ولهذا يتغير مع تغير الزمان وموضوعات الحياة واساليبها ، فضلا عن تطور المعرفة واتساع ادراك الانسان لحقائق الطبيعة. اي ان الجواب الذي ظن انه الوحيد الصحيح ، ليس سوى الاحتمال الراجح في زمنه والمتناسب مع مستوى معارفه. وحين يتغير الزمان وتتسع المعرفة ، فسوف يكتشف الناس احتمالات بديلة.

ان استقلال العلوم عن بعضها ، واتجاهها للتخصص الدقيق هو اهم التحولات التي حصلت في القرنين الاخيرين. وبسببه ما عاد الفقيه قادرا على الاحاطة بعلم الطب او الهندسة او الفلك او الرياضيات ، كما كان الحال في الماضي. بل حتى العلوم اللصيقة بدراسة الشريعة ، تحولت الى تخصصات متوسعة ودقيقة ، لا يمكن للفقيه ان يتفوق على المختصين فيها. ومن ذلك علوم النحو واللغة والادب والمنطق والفلسفة والتاريخ ، وكذلك العلوم الخاصة بالاثبات وفهم النزاعات ، ومثلها العقود والتعويضات. وهي مما يحتاجه القضاة.

ان اعتماد العلوم المختلفة في تشخيص موضوعات الحكم الشرعي ، وارتقاء فهم الفقيه نتيجة اطلاعه على العلوم الجديدة التي تطورت بعيدا عن مدارس العلم الشرعي ، هي ما نسميه مشاركة عامة الناس ، مسلمين وغير مسلمين ، في فهم موضوعات الشريعة ، ثم في صياغة احكام الشريعة.

ما ندعو اليه اذن هو اقرار المشتغلين بالفقه ، بأنهم يعتمدون في كثير من عملهم على العلماء في الحقول الاخرى. فاذا كان لعمل الفقيه قيمة ، فان جانبا منها يرجع الى أولئك. هذا ببساطة ما نسميه مشاركة اجيال المسلمين في صوغ حياتهم الدينية وتجربتهم الدينية. انه واقع قائم ، لكنه يحتاج الى اقرار وتنظيم.

الشرق الاوسط الخميس - 04 ربيع الثاني 1445 هـ - 19 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4614221


مقالات ذات علاقة

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة التجديد بغيضة.... ولكن

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في رثاء د. طه جابر العلواني

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

نسبية المعرفة الدينية

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

22/05/2019

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني


أستطيع القول من دون تحفظ ان الاصلاح الديني رهن بالتعامل مع ثلاث معضلات ، أولها وأصلها فيما أظن هو هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني ، أما الثاني ، فهو الاستسلام للنهج الاخباري في وضع القيم والأحكام ، واخيرا تحويل الاحتياط الى معيار للتدين.

أعلم ان هذه دعوى عريضة. ويعلم القاريء ان المجال المتاح لا يسمح بمجادلة مطولة حولها. ولذا سأكتفي بشرح موجز للمعضل الأول ، طمعا في إثارة الاذهان للتفكير فيه ، وهذا غاية المراد.
موضوع علم الفقه هو "فروع الدين" التي تنقسم الى عبادات ومعاملات. وغرضه استنباط الاحكام ، اي تحديد الواجب والمحرم والمكروه والمستحب. وبسبب انحصاره في هذه الدائرة ، فان تطور العلم واتساعه ، انصرف الى البحث عن مزيد من الاحكام ، اي توسيع دائرة الموضوعات الشرعية. ومع مرور الوقت بات التوسع في الاحكام ، مجالا للتنافس بين المشتغلين بعلم الفقه. حتى لو سألت احدهم عن رأي الشرع في زرع هذا النوع من الشجر او ذاك لأفتاك ، ولو سألته عن حكم هذه الرياضة او تلك لما تأخر في الجواب.
لا يكترث الفقه باحوال القلوب ، قدر ما يركز على الشكليات والافعال الظاهرة. ومن هنا فان معيار التمييز بين المتدين وغير المتدين هو السمات الظاهرية ، اي ما يظهر على الانسان وما يراه الناس في شكله الخارجي ولباسه ولغته.
في الوقت الحاضر يشكل علم الفقه بوابة الولوج الى علوم الشريعة. بل لا نبالغ لو قلنا ان مسمى علم الشريعة ، ينصرف الى علم الفقه في المقام الاول. اي ان علم الفقه يشكل الجزء الاكثر بروزا وتاثيرا من المعرفة الدينية. مع ان الموضوع الذي يختص به ، أي "فروع الدين" وهي تضم كما سلف العبادات والمعاملات ، لا تشكل غير نسبة صغيرة من مساحة المعرفة الدينية. وقد اشرت في مقال سابق الى ان آيات الاحكام التي تشكل موضوعا لعمل الفقهاء ، لا تزيد عن 500 آية ، اي نحو 8% من مجموع القرآن.
هيمنة المدرسة الفقهية على علم الدين لم تبدأ اليوم. بل أظنها بدأت في وقت ما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر الميلادي ، حين انحسر الاهتمام بالمعارف العامة ومنها المعارف الدينية ، وانحصر في علم الفقه دون غيره. ومع الوقت ، بات مسمى المجتهد او عالم الدين او الفقيه ، يطلق على العالم في الفقه بصورة خاصة ، وانصرفت مدارس العلم الديني الى دراسة الفقه ، دون غيره من علوم الشريعة.
هيمنة النهج الفقهي تعني بالتحديد هيمنة الرؤية التي تنظر للدين باعتباره اداة تقييد لحياة الأفراد وسلوكياتهم. ونعرف ان هذا أمر يخالف هدفا عظيما للرسالة السماوية ، وهو تحرير العقول والقلوب.
لا نحتاج الى كثير من المجادلة في النتائج التي تترتب على تطبيق هذا المنهج ، فهي واضحة أمامنا ونراها كل يوم ، ولا سيما في كلام الفقهاء التقليديين وتطبيقاتهم. وهي في الجملة تطبيقات حولت الدين الحنيف الى موضوع للامتهان والسخرية ، كما تسببت في هجرانه من جانب شريحة واسعة جدا من ابنائه.
معرفة الله والايمان به والسلوك اليه والالتزام بأمره ، ليست مشروطة باتباع آراء الفقهاء ونتائج بحوثهم. فهذه لم يعرفها المسلمون الا في عصور ضعفهم وانحطاط حضارتهم. لا نريد القول بوجود علاقة سببية بين هذه وتلك ، لكن التقارن بين الاثنين لا يخلو من تأمل.
الشرق الاوسط الأربعاء - 17 شهر رمضان 1440 هـ - 22 مايو 2019 م

مقالات ذات علاقة

19/04/2017

نظرة على علم اصول الفقه

"أصول الفقه"  هو منهج البحث في أدلة الاحكام الشرعية. لا يمكن للفقيه ان يعمل دون الاعتماد على القواعد ونظم البحث والمقدمات النظرية التي تطورت في أطاره. المهمة الرئيسية لعلم اصول الفقه هي وضع الاطارات النظرية وصوغ المفاهيم الناظمة للبحث الفقهي. ومن هنا نقول ان تطور علم الاصول سيقود بالضرورة الى تطور الاجتهاد والارتقاء بمستوى البحث الفقهي ، وبالتالي انتاج أحكام شرعية أكثر دقة وملامسة لموضوعاتها وانسجاما مع روح الشريعة.

"اصول الفقه" علم عقلي ، يطور القواعد والمفاهيم ، او يستعيرها من العلوم الأخرى كالفلسفة والمنطق واللغة. من يقرأ في الفقه ، سوف يصادف على الدوام قواعد مبنية على حكم العقل مثل "لاضرر ولا ضرار" ، "دفع العسر والحرج" ، "امتناع التكليف بالمحال" ، "عدم جواز التكليف بما لا يطاق" ، "دفع الضرر بالضرر" ، "أولوية دفع المفسدة على جلب المصلحة" ، وعشرات القواعد المماثلة ، التي استعملها الشرع في إطاره الخاص.

رغم ان علم الاصول الذي لدينا لا يقارن بما كان عليه في بداياته. الا انه – مثل سائر علوم الشريعة الاخرى – تباطأ كثيرا ، ولا سيما في القرنين الاخيرين. نعرف هذا من المقارنة بينه وبين التطور الكبير للعلوم الموازية له ، مثل علوم اللغة والقانون والفلسفة وغيرها.  وأحتمل ان هذا مرتبط بتراجع العلم في العالم الاسلامي بشكل عام ، وعدم انفتاح دارسي الشريعة على العلوم الجديدة التي تطورت في اطار الحضارة الغربية.

لكني أجد سببا آخر ، وهو إعراضه عن التخصص. وهذه مشكلة فيه وفي علم الفقه ، وهو المستهلك الوحيد لنتائج علم الاصول. ان الثورة العلمية التي شهدها العالم ، ولاسيما في القرن العشرين ، مدينة في جانب كبير من زخمها الى رسوخ مبدأ التخصص العلمي ، الذي تحول بموجبه العلم الواحد الى عشرات من العلوم الفرعية ، المنفردة برجالها ومدارسها ونظرياتها ومجالات عملها. يستحيل ان ترى في هذه الايام فيلسوفا او عالم قانون او طبيبا أو رياضيا ، محيطا بكل فروع هذه العلوم. لأن سعتها وغناها يفوق قدرة فرد واحد على الاحاطة بفرع واحد ، فضلا عن كافة الفروع.

لو اتجهنا الى تطوير علم الاصول من خلال تطبيق مبدأ التخصص ، فسنرى باحثين متخصصين في اللغويات واللسانيات وعلم الدلالة ، واخرين في نظرية المعرفة ومنطق البحث العلمي ، وغيرهم في الهرمنيوتيك الفلسفي (التأويل) وفقه القانون. وهذه العلوم قريبة جدا من المجال المباشر لعلم اصول الفقه. لو حدث هذا فلربما تلاشت الفجوة الفاصلة بين علم الدين والعلوم الحديثة. ولربما حصلنا على منظومة واسعة من العلوم الاصولية. وسنجد ان القواعد التي ذكرناها في أول المقالة قد تضاعفت وتفرعت ، وبات بامكاننا الانتقال من الفقه المدون في الاف المسائل المنفردة الى فقه منظومي مرتب بقواعد عامة وفروع مترابطة. وأظن ان هذا سيكون تمهيدا فعالا لتطور الفكر الديني ، ومعه معنى الدين ودوره في الحياة العامة.

 

الشرق الاوسط 19 ابريل 2017
http://aawsat.com/node/905761

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...