رغم المناوشات الصغيرة هنا
وهناك ، فان مسار العالم العربي متجه إلى حالة استرخاء أمني وسياسي ، وهذا ليس من
نوع الرجم بالغيب ، لكن تتبع مسار احداث السنوات الأخيرة ، وتحليل معاني وانعكاسات
الاحداث الكبيرة خاصة ، قد يساعد على الظن بأن السلام الاجتماعي سيكون سمة غالبة
في العقد القادم ، نشير مثلا إلى ان البلدان العربية التي كانت مراكز أزمة ـ
السودان ، الجزائر ، العراق مثلا ـ تبدو
اليوم اقرب ما تكون إلى مغادرة دائرة الأزمة . ولا يضعف هذا التحليل ما يخبئه
الانكماش الاقتصادي الراهن من انعكاسات اجتماعية وسياسية محتملة ، أخذا بعين
الاعتبار نجاح بعض العرب ـ الاردن ، لبنان ، اليمن على سبيل المثال ـ في احتواء
الانعكاسات الاجتماعية / الامنية للتأزم الاقتصادي .
شارع المتنبي في بغداد |
في ظرف الأزمة ، يستأثر
الأمن الوطني بمعظم الاهتمام الرسمي ، وعلى العادة العربية المشهورة ، فان تصاعد
الهم الامني يقترن دائما بزيادة القيود وتوسيع نطاق الممنوعات ، لهذا نتوقع ان
يكون الارتخاء السياسي سبيلا إلى تخفيف القيود .
العالم العربي في أمس الحاجة
إلى توسيع مساحة (المباح) في الحياة العامة
، في المجتمع والثقافة والسياسة ، ورفع القيود تماما على مستوى الحياة
الشخصية ، أي الفصل بين الالتزامات العامة
المطلوبة من الفرد بما هو جزء من المجتمع ، وممارساته الخاصة المتعلقة بحياته
الخاصة أو الاسرية ، لكن هذا حديث يطول وقد يؤذي ، وما أردنا الاهتمام به في هذه
المقالة هو الجانب الثقافي من الحياة العامة ، أملا في ان يكون العقد القادم ،
مكرسا للنهوض العلمي والثقافي ، الذي لا بديل عنه للتقدم ومواجهة تحديات القرن
الجديد .
لا أريد الحديث عن فضل العلم
أو الحث على طلبه ، فلا أحد يجادل فيه ، في كلياته على الأقل ، لكن المهم هو الربط
بين العلم والتقدم ، فقد يحصل ، بل وهذا ما حصل فعلا في التجربة العربية ، ان
يتوفر العلم ويبقى المجتمع أسيرا للتخلف ، لقد طوى التعليم الحديث في الوطن العربي
ما يزيد على قرن من العمر ، وخرجت المدارس ملايين المتعلمين ، ورغم هذا فلا زلنا
نتطلع إلى أفق التقدم باعتباره بعيدا عنا ، خلافا للعقيدة الاولية التي يحملها كل
متعلم والتي مضمونها ان التقدم يأتي بعد العلم ، وان العلم طريق حتمي إلى التقدم .
ويمكن إرجاع هذه المفارقة
(حصول العلم دون حصول التقدم رغم التلازم المنطقي بينهما) إلى علل كثيرة ، من
بينها مثلا ان العلم المدرسي لم يتفاعل مع النسيج الثقافي العام ، حيث لا يزال
بالوسع التمييز بين مسارين منفصلين في الذهنية الاجتماعية ، وهي التكثيف الأولي لمجموع
الذهنيات الخاصة للأفراد ، وتظهر هذه الازدواجية بوضوح في مثال المتعلم الذي يتبع
أدق المعادلات المنطقية في مهنته ، ثم يتخلى عن التجربة العقلية تماما في قراءة
تراثه أو في تربيته لأولاده أو علاقاته الاجتماعية .
ومن بين تلك العلل خضوع
الثقافة للسياسة ، ونجاح أهل السياسة في وضع مسارات محددة للبحث والتعبير العلمي ،
لكي تصل إلى نتائج مقررة سلفا ، مما يلغي فرص الحوار الضروري لانضاج الفكرة
العلمية ، وتحويلها من كائن نظري يحلق في الفضاء ، إلى كائن متفاعل مع المادي
والمعنوي المتحرك على مسرح الحياة اليومية ، ومن العلل أيضا العلاقة الحرجة بين
العقيدة والمعرفة ، والتي هي في الأصل علاقة مفتعلة ، لم توجد إلا حين أراد بعض
المقتدرين فرض وجودها ، وتنعكس في صورة حدود لمجال التفكير وقيود على فرص التعبير .
وفي ظني ان العرب جميعا ،
عامتهم ونخبتهم ، حكامهم ومحكوميهم ، يشعرون بالحاجة إلى العلم ونشره ، والبناء
عليه واستثمار نتاجه ، لكنهم ـ مع هذه الرغبة ـ قد يضحون بما يتمنون ، خشية ان
يفتح عليهم أبوابا صعبة الغلق ، ويجسد المثل الشعبي السائر (الباب اللي يجيب الريح
.. سده واستريح ) رد الفعل الاولي على اختلاف الاجواء .
يزداد الميل إلى التشدد
وإغلاق الأبواب في ظروف التأزم ، بينما يتراجع هذا الميل في ظروف الارتخاء ، لكن
التحول الطبيعي يأتي بطيئا جدا ، وإذا كان تحليلنا صحيحا عن اتجاه الوضع العربي
إلى الاسترخاء ، فقد نحتاج إلى التنبيه بانه قد حان الوقت لتعويض ما خسرناه في ظرف
الأزمة ، فالقيد الذي وضع تحت مبرر الازمة ، لا محل له بعد ان تنجلي أو توشك .
28-2-99