25/11/2015

الاسئلة الباريسية



احداث مثل الهجوم الدموي في باريس قبل اسبوعين ، تعيد الى الحياة أسئلة جالت كثيرا وجودلت كثيرا ، لكنها بقيت حائرة. ليس لصعوبتها ، بل لأن إجاباتها تحيل بالضرورة الى مشكلة أكبر.
يتعلق السؤال برؤيتنا للغرب ، "هاجس الغرب " حسب داريوش شايغان. وجوابه يحيل الى سؤال أكثر تعقيدا عن رؤيتنا لذاتنا كمسلمين ودورنا في العالم ، اي الهوية "الكونية" التي نريدها لأنفسنا. ان اكتشاف الذات وتحديد المكان هو التمهيد الضروري لاكتشاف العالم وفهمه وتحديد المسافة بينك وبينه.
طبقا للمرحوم محمد اركون فان رؤية المسلمين للغرب تشكلت اولا في سياق محاولة جادة لفهمه والتعلم منه ثم منافسته. كان هذا مسار النخبة الصغيرة التي تنسب اليها بذور الوعي الأول ، بين أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. بعد مرحلة النهضة هذه ، حدث انتكاس قادنا الى مرحلة ثانية ، يسميها مرحلة الثورة ، شهدت تحولا من محاولة فهم الغرب والتعلم منه ، الى الرفض المطلق له ، ومحاولة إحياء القوة الذاتية من خلال التركيز على خطوط التفارق بيننا وبينه ، باسم القومية في أول الأمر ثم باسم الدين ، كما هو الحال حتى الآن.
كان المرحوم مالك بن نبي قد أشار الى نتيجة هذا الخيار ، في قصة يعرفها الجميع ، حين قارن بين موقف الياباني الذي ذهب الى الغرب تلميذا يتعلم كي يستغني عن معلمه ، وبين موقف المسلم الذي ذهب زبونا يشتري  منتجات جاهزة. ونعرف بقية القصة حين نقارن حالنا اليوم بحال اليابان.
طرف القصة الآخر أوضحه نجم الثاقب خان ، المفكر الباكستاني الذي سجل ملاحظات قيمة عن فترة عمله في طوكيو ، في كتابه "دروس من اليابان للشرق الأوسط". وهو يرى ان اخفاقنا في العلاقة مع الغرب سببه أننا اعتبرنا  هويتنا سدا ، اما اليابانيون فقد اعتبروها مجرد موضوع تمايز قابل للتدوير. الهوية في رأيه فرس جموح يمكن ان يقود عربة التقدم اذا ربط اليها ، لكنه قد يقلب العربة اذا اعترضها.
يعتقد شايغان ان موقفنا الملتبس من الغرب ، المندهش من تفوقه حينا والكاره له حينا اخر ، عرض لقلق عميق في داخل نفس المسلم ، سببه عدم استيعاب ظاهرة تاريخية كبرى هي الحداثة في معناها الواسع . نحن لم نحاول استيعاب الحداثة في دلالتها الفلسفية الخاصة ، كتجربة ابدعها الانسان من أجل تجاوز قيود الطبيعة ، وصولا الى السيطرة على عالمه ، بل تعاملنا معها من خلال تعارضاتها مع موروثنا النظري وتصوراتنا عن ماضينا. ولهذا فكل حكم عليها ارتدى منذ البدء رداء التقويم الاخلاقي ، مدحا او قدحا ، لا الموضوعي الذي يسعى للفهم ثم يشارك في تطوير الفكرة.
نحن اليوم مجرد مستهلك لمنتجات الحداثة الغربية. وكان حريا بنا ان نجتهد للمشاركة في بناء العالم وفي انتاج العلم الذي منح الغرب القوة والسيادة. المشاركة في صناعة عالمنا رهن باستيعابنا لديناميات هذا العالم وأسرار حركته. وهذا لن يتأتى ما لم نتعلم ، ولن نتعلم شيئا من العالم ما لم نتعارف معه. أول التعارف هو التواضع والانفتاح الكلي والصريح. مكونات هويتنا ، قناعاتنا وتقاليدنا ، منتج بشري ورثناه ، وقد كان مفيدا في زمن منتجيه. أما اليوم فليس سوى حجاب يمنعنا من فهم العالم الذي نعيش فيه تابعين متكلين على غيرنا.
يجب ان نضع جانبا مشاعر العداوة مع العالم ، ان نعيد صوغ هويتنا كشركاء في هذا العالم ، لا كفئة مصطفاة تنظر اليه من الأعلى ، ولا كجمع من المندهشين المستسلمين المنكرين لذاتهم. نحن قادرون على الفهم والمشاركة والمنافسة اذا اخترنا طريق الانفتاح والتفاهم  بدل الارتياب أو الكراهية.
الشرق الاوسط 25 نوفمبر 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...