27/05/2020

ركاب الدرجة السياحية


معظم الناس يختارون الدرجة السياحية في الطائرات ، لانهم لايملكون المال الكافي لشراء تذاكر الدرجة الاولى ، او لعلهم غير مقتنعين بدفع الكلفة الاضافية. ربما يقول احدنا: لماذا ادفع نصف راتبي كي اسافر في الدرجة الاولى؟. ولعله محق. فالعاقل لا ينفق اسبوعين من عمره يعمل ثماني ساعات يوميا ، فاذا استلم اجرتها ، انفقها على كرسي مريح لمدة ساعتين او ثلاث.
لكن المسألة ليست هكذا. المثال المذكور عن ركاب الطائرة قد يكون مضللا. دعنا نبدأ من قصة "الميدوقراطية" التي شرحها زميلنا د. مامون فندي ، في هذه الصحيفة يوم الاثنين الماضي. فهو يطرح سؤالا جديا ، قد يكون في الحقيقة الجواب المعاصر عن سؤال: "لماذا تاخر المسلمون وتقدم غيرهم" الذي طرحه المرحوم شكيب ارسلان قبل مئة عام.
خلاصة ما توصل اليه الزميل مأمون هو اننا رضينا – او ربما جرى اقناعنا – بان الدرجة الثانية هي الموقع الممكن لنا في هذا العالم ، او لعلها المكان الذي نستحقه.
ماذا يعني هذا الكلام؟
خذ هذه الامثلة: نسمع احيانا دعوات لتطوير تعليمنا ، فنرد عليها قائلين: صحيح ، ولكننا افضل من البلد الفلاني في جودة المناهج. وقد نسمع من يطالبنا باعطاء اولوية للبحث العلمي ، فنرد عليه: موافقون ، ولكن لدينا اولويات اخرى مثل تطوير التعليم. او نتحدث عن توطين  التقنية والتحول نحو الاقتصاد الصناعي ، فيردون عليك بان الدول الكبرى الممسكة بازمة المال والتكنولوجيا في العالم ، لن تسمح لدولة اسلامية بان تنافسها او تستغني عنها. او ربما يقولون مثلما قال احد تجار الغفلة السابقين: ان لكل شعب قدر ومعرفة ، وقدرنا هو التجارة ومعرفتنا فيها ، بخلاف المجتمعات الكثيرة السكان كاليابان الذين تشيع عندهم الحرف والهندسة والصناعة  ، وربما يستشهد برأي عبد الرحمن ابن خلدون ، الذي مال الى هذا الراي ، وقال ايضا ان العرب ليسوا اهل حرف ولا صناعة ، وانهم ماسادوا بلدا الا واسرع اليها الخراب.
تبريرات الخيبة هذه شائعة في مجتمعاتنا. وسوف تجد من ينظر لها ويتوسع في الحديث حولها ، حتى يقنع السامعين بان مكاننا الطبيعي هو الدرجة الثانية ، اي موقع المنفعل والمتأثر ، لا الفاعل ولا المتفاعل ولا المؤثر ، ولو استعرنا تعبير المرحوم مالك بن نبي ، فهو موقع الزبون والمستهلك ، وليس موقع التلميذ الساعي لتعلم الصنعة كي يستغني عن شرائها مرة بعد مرة.
هذه التبريرات لها اصل واحد ، هو الشعور بقصور الذات والخوف على الذات. وهو نقيض الميل للمغامرة. ونعلم ان تجارب التقدم في التاريخ الانساني انطلقت كلها من مغامرات فردية ، تلقفها المجتمع لاحقا. حين تدرس تجارب التعليم في الغرب ، فسوف تجد جانبا هاما منها مكرسا لتشجيع نوعين من المغامرة: المغامرة الذهنية (اي الذهاب وراء الخيال والحلم الى اقصى مداه) والمغامرة المادية (اي خوض التجارب التي تضع الانسان امام تحديات جدية وعوالم مجهولة). 
اما في المجتمعات العربية فان محور التعليم هو اقناع الطالب بان يكون "شابا مهذبا". والمقصود بالتهذيب طاعة الاكبر منه سنا والسير على ذات التقاليد التي ورثها الآباء عن آبائهم ، في اللغة والاخلاقيات والمعارف والمعايير وانماط المعيشة والعمل.
لو اردنا علاجا حاسمة للشخصية المنكمشة ، المقتنعة بمقاعد الدرجة الثانية ، فان الحل يبدأ في المدرسة ، اي من الجيل الجديد الذي لازال على مقاعد الدراسة. بدل التلقين وتكرار المكررات ، علينا ان نطلق خيال هؤلاء الشبان. علينا ان نلقي بهم في قلب التحدي ، ان ندعهم يخوضون المغامرة في شتى تجلياتها. سيفشل بعضهم بالتاكيد ، لكن الاغلب سيعود بروحية متوثبة طموحة وقادرة على مواجهة تحدي المستقبل ، اي التطلع الى مقاعد الدرجة الاولى ، مهما كانت مكلفة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 4 شوال 1441 هـ - 27 مايو 2020 مـ رقم العدد [15156]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...