حين تقع نزاعات ، فان الناس يبادرون الى اتهام من يسمونهم "متعصبين". هذا يعني ضمنيا ان الاتجاه العام هو عدم التعصب ، أو ان التعصب يعتبر استثناء من القاعدة الاخلاقية ، او شذوذا عن العرف السائد. لهذا السبب ، فليس هناك من يعتبر نفسه متعصبا ، او يتقبل اتهام الناس له بالتعصب. اما الجماعات السياسية والدينية ، فهي ترى وصمها بالتعصب نوعا من العدوان والافتراء. وهذا ينطبق تماما على مرادفات التعصب ، نظير الغلو والتطرف والتشدد والاصولية ، وأشباهها.
هذا يثير سؤالا بديهيا: اذا كان الأمر على هذا
النحو ، فكيف نبت التعصب.. هل يمكن لمجتمع متسامح ان ينبت اعدادا كبيرة من
المتعصبين ، نظير ما شهده العالم الاسلامي في العقود الأربعة الماضية؟.
يبدو لي ان التعصب سمة مستقرة في بنية المجتمع. ولولا وجوده لما أمكن اطلاق
وصف التسامح او الاعتدال على أحد. التسامح والتعصب ، كلاهما وصف مقارن ، يعرف
ويتميز في وجود نقيضه. لكن أستطيع القول ان هناك مجتمعات اكثر تسامحا من غيرها ،
اي – بعبارة اخرى – ان هناك مجتمعات اكثر تعصبا من غيرها.
المجتمعات المتسامحة هي التي
تتقبل – بشكل عام – المختلفين عنها في الدين او الثقافة او نمط العيش ،
اي التي تتسامح تجاه الافكار الجديدة والقيم المختلفة عما اعتادت عليه. هذا وصف
عام ، ويمكننا ان نتخيل مجتمعات ينطبق عليها الوصف السابق بدرجات اعلى ، اي انها متسامحة
جدا ، ومجتمعات في الاتجاه الآخر ، فهي متسامحة قليلا.
التعصب لا ينبت فجأة. بل هو ثمرة لعوامل توجد
في البنية الاجتماعية او في المحيط الطبيعي ، وتؤثر بدرجات متفاوتة على تفكير
الأفراد او مصادر عيشهم ، فتحولهم الى متعصبين او متسامحين.
بسبب تعدد العوامل المؤثرة وانبساطها زمنيا ، فليس هناك مجتمع كل افراده
متعصبون بالحد الاقصى ، وليس هناك مجتمع كل افراده متسامحون بالحد الاقصى. هناك
دائما من يقع في طرف المسطرة ومن يقع في وسطها ، وثمة بين هذا وذاك آخرون ، يتحركون
باتجاه الوسط حينا وباتجاه الطرف حينا آخر.
لا شك ان الثقافة العامة السائدة ، وتلك التي يتلقاها الاطفال في البيت
والمدرسة ، هي أقوى المؤثرات التي تشكل ذهنية الفرد. لكن لا ينبغي اغفال العوامل
الأخرى غير المنتظمة ، لاسيما الأزمات الكبرى التي تعصف بالمجتمع ، نظير الكوارث
الطبيعية والحروب والتحولات الاقتصادية الكبرى ، والأزمات السياسية طويلة الأمد.
كل من هذه يترك أثرا عميقا في تفكير الفرد ورؤيته للعالم. وهي تحدد الى حد بعيد
المنظار الذي يرى من خلاله الأشياء ، منظار صاف (واقعي) ام معتم (متشائم).
حين تقع أزمة ، فان ذهن الفرد
ينفتح على مصراعيه لما تقوله المنابر العامة. المنابر التي تلقي بالمسؤولية على
الاخرين ، أعداء او أصدقاء ، وتلك التي تقدم وعودا بان جهات أخرى ستتولى معالجة
المشكلة ، تلعب دورا سلبيا ، حيث تعزز الميل التشاؤمي ، ومن ثم التوتر النفسي ،
الذي يترجم على شكل تعصب في فهم الأشياء والتعامل مع الناس. وفي المقابل فان
القنوات والمنابر التي تحاول تشريح المشكلة إلى أدق التفاصيل ، وتؤكد على قدرة
الانسان بصورة عامة على حل مشكلاته ، او قابليته لتجاوزها بمرور الزمن ، هذه
القنوات تحيي الامل في النفوس وتعزز المنظور الإيجابي للحياة ، أي الميل التفاؤلي
/التسامح. غني عن القول ان التوتر
النفسي يعزز الميل للتعصب ، بينما السكينة والاطمئنان يعزز الميل للتسامح.
الشرق الاوسط الأربعاء - 22 رجب 1443 هـ - 23 فبراير 2022 مـ رقم العدد [15793]
https://aawsat.com/node/3490696
مقالات ذات صلة
ان تكون مساويا لغيرك: معنى التسامح
التسامح وفتح
المجال العام كعلاج للتطرف
تعزيز
التسامح من خلال التربية المدرسية
ثقافة الكراهية تجريم الكراهية
الحق الواحد والحق المتعدد: هل تراه معقولا؟
سؤال التسامح الساذج: معنى التسامح
الفلسفة في المدرسة
في التسامح الحر والتسامح المشروط
في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة
استثناء
في بغض الكافر
في معنى التعصب
من الاجوبة الى النهايات المفتوحة
من القطيعة الى العيش المشترك
الهوية
المتأزمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق