احاول بين حين وآخر تسجيل ملاحظات القراء على كتاباتي ، على أمل التحقق منها او القراءة حولها ثم مناقشتهم فيها. وتقتضي الصراحة القول بأني لم أوفق الا نادرا. فمراجعة تلك الملاحظات ، أثارت في أغلب الأحيان اسئلة جديدة. وهكذا يتوارى السابق في ظل تاليه. ومع الوقت ، بدأت استمتع بالتركيز على الاسئلة المثارة وتوضيح ما يتفرع عنها ، والاطار الموضوعي او النسقي الذي تدور فيه ، ثم ترك الجواب للقاريء ، يبحث عنه ويتأمل في احتمالاته ، ان كان ممن يستهويه التفكر والنظر والتأمل.
اعلم اني كسبت العديد من القراء ، الذين يحبون امعان النظر في
الاشياء وملاحقة شوارد الافكار وشواذها. لكن قراء آخرين اظهروا ضيقا بما اعتبروه هروبا
من الاجوبة الصريحة. ولعلهم ارادوا فكرة محددة ، هي موقف او مبرر لموقف تجاه القضايا
المثارة في المجتمع. بعبارة اخرى فانهم – ان صح هذا الاحتمال - ارادوا كاتبا يجيب
على الاسئلة التي يثيرها هو أو غيره ، لا
كاتبا يزيد الاسئلة او يتركها مفتوحة ويمضي.
تجربة التركيز على الاسئلة بدل الاجتهاد في تقديم اجوبة ، أعادتني
الى فكرة "النهايات المفتوحة" التي كنت قد تعرفت عليها حوالي العام 2002
، لكني لم اقتنع بها يومذاك. وفحوى هذه الفكرة ان التقدم ليس مهمة او مجموعة مهام
تنجز في وقت محدد ، بل هو مسار مفتوح النهايات ، تتقدم خطوة فتكتشف عوالم اوسع ، تثير
فضولك لمعرفة اعلى او اعمق وحاجة لتحديد علاقتك بهذه العوالم المجهولة. العلم مسار
مفتوح النهايات ، والاقتصاد كذلك ، والقوة المادية في مختلف تجلياتها مثلهم ،
وتطلعات البشر .. وهكذا.
لم اكن مقتنعا بفكرة "النهايات المفتوحة" حين طرحها
احد اساتذتي في سياق نقاش علمي حول المفهوم العميق للشراكة المجتمعية. وكانت حجتي
يومها ان منتجي الفكر ومروجيه ، عليهم واجب إرشاد الناس وتوجيههم الى الطريق
السليم. في المقابل كان الاستاذ يلح على ان الفكرة لا تتطور اذا نقلت من "عقل
أعلى" الى "عقل أدنى". وحسب تعبيره فان المفكر او المثقف او
الاستاذ ، ليس شرطي مرور يخبر السيارات في اي اتجاه تذهب. انه اقرب الى مدرب فريق
الكرة الذي يخبر اللاعبين عن افضل الممارسات في رايه ، لكنه يتكل بشكل شبه تام على
ابداعهم الشخصي وتفاعلهم مع بعضهم ، اي ما يدعى روحية الفريق. لو استطعنا خلق تفاعل
بين اهل الفكر والجمهور ، يستلهم
"روحية الفريق" ، فالمؤكد ان الفكرة الجديدة سوف تتطور بسرعة اكبر مما
لو اشتغل عليها شخص واحد ، حتى لو كان اعلم الناس.
الطريق الطبيعي لتفاعل العقول هو طرح الاسئلة على الناس جميعا ،
ودعوتهم للتأمل بحثا عن الاجوبة المحتملة. سوف نفترض ان منتج الفكرة لديه قدرة
اكبر من المتلقي. لكن دوره لن يكون التفكير نيابة عن الناس ، واعطائهم اجوبة جاهزة
، بل اقتراح مسارات التفكير وايضاح الاطار الموضوعي والنسقي الذي يدور فيه السؤال.
اعتقد اننا لن نتوصل الى اجوبة نهائية او قطعية. لكن لو شئت
الصراحة فاننا لانحتاج اجوبة كهذه. تكفينا معرفة الطريق الذي نسير فيه ، وتكفينا
القناعة بان التناسب بين ما نعلمه وما لا نعلمه يماثل نسبة القطرة الى البحر. لكننا مع ذلك لن نتهم انفسنا
بالجهل ولن نتهم عقولنا بالقصور. نحن نجادل عالمنا ونجادل انفسنا ايضا. وكلما
مضينا الى الامام اتضح الطريق أكثر ، واتضح مقدار جهلنا بتضاريسه. وهذه بذاتها
مرحلة هامة في المعرفة.
الشرق الاوسط الأربعاء
- 16 جمادى الأولى 1442 هـ - 30 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15373]
https://aawsat.com/node/2710756/
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق