الذين يعارضون اعتماد العقل مصدرا للتشريع والمعرفة الدينية ، يقيمون موقفهم على منظومة استدلال ، يرونها مناسبة لحمل تلك الدعوى.
لكن التأمل في هذه الادلة يكشف عن
نقاط ضعف اساسية ، أبرزها في ظني هو ان الاطار الذي يدرس فيه الموضوع ، ليس محددا
على نحو دقيق. ولهذا دخلت فيه قضايا واستدلالات لا علاقة لها به ، كما اختلطت في
سياقه العبارات الوصفية والتفسيرية ، بتلك التي تنطوي على احكام وقيم. بل وجرى
استعمال هذه في موقع تلك وبالعكس.
ومن ذلك مثلا القول الشائع ، بأن ابليس تحول من ملك الى شيطان رجيم ، حين اتبع عقله فعصى أمر ربه. ونعلم ان هذا ليس دليلا في هذا الموضع ، واستعماله فيه نوع من الحشو والقصص لا العلم.
ولعل
الفوضى المهيمنة على النقاش سببها اتخاذه صفة المساجلة بين خصمين ، لا يريد احدهما
معرفة حجج الآخر ، الا لغرض وحيد هو تثبيت موقفه. ولهذا ايضا لا أرى امكانية
لتوصلهما الى رؤية موحدة. فكلاهما يعبر عن موقف فكري مرتبط بدائرة مصالح اجتماعية
، على النحو الذي أسماه توماس كون بالبرادايم ، او ما نسميه أحيانا بالنسق. ذلك
الموقف اذن امتداد لمنظومة متبنيات ثقافية وانحياز اجتماعي ، لن تنفك اجزاؤه عن
بعضها البعض ، بمجرد النقاش.
في زاوية ثانية نلاحظ ان النقاش حول دور العقل ، يعاني – كمعظم النقاشات المماثلة في الفكر الاسلامي – من ضعف واضح في تحديد المفاهيم المحورية ، التي يتوجب الاتفاق على تعريفها كي يكون النقاش متصلا. مبرر هذه الحاجة هو ان بعض المفاهيم ، مثل "العقل" ، "النص" ، "الشريعة" و"الجماعة" الخ .. تحولت بشكل عميق ، لاسيما خلال القرن العشرين ، عن التركيب الذي كان معهودا حين بدأ هذا الجدل ، مع اشتهار منهج الامام ابو حنيفة في الاجتهاد ، قبيل منتصف القرن الثاني الهجري.
لابأس
بالتذكير هنا بأن مفهوم "العقل" الذي عرفه الاسلاف ، كان اقرب للمفهوم
الذي اشتهر عند فلاسفة اليونان ، اي اعتباره اداة مستقلة قادرة بمفردها على ادراك
الكمالات ومواضع الجمال ، وبالتالي تمييز الحقائق والفضائل والحكم على
موضوعاتها.
اما
"العقل" الذي نناقشه اليوم فهو مختلف في تعريفه وفي تقييم
عمله. ولعل أقرب المفاهيم القديمة اليه ، هو ما كان يطلق عليه "بناء
العقلاء" ، الذي تشبه صورته الاصلية مفهوم العرف العام. جدير بالذكر ان الامام الغزالي كان قد اشار في ذيل كتاب
العلم من "احياء علوم الدين" الى ان الخلاف
على المفاهيم وحدودها ، كان واسعا حتى في زمنه (450-505ه) ، وحسب تعبيره فان أكثر
"التخبيطات إنما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها
لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ".
كذلك
الحال في مفهوم "النص" الذي كان ينظر اليه في السابق كتعبير منفرد
ونهائي عن الحقيقة ، بينما ينظر اليه اليوم كوعاء للحقيقة ، وفي بعض الحالات قيدا
عليها. ولذا نحتاج أحيانا لتجاوزه ، من اجل تحرير الحقيقة او الرسالة المنطوية فيه
، من قيود التاريخ وانعكاسات الظرف عليه وعلى فهمه.
زبدة
القول ان العقل الذي يدور حوله الجدل الذي استعرضناه في الاسبوعين الماضيين ، ليس
واحدا او محددا. ان ما يقال عنه وعن دوره ، تأييدا او رفضا ، قد يتعلق بعقل متخيل
، تتعدد صوره ومفهوماته بقدر ما يتعدد المشاركون في الجدل حوله. ولذا
فلعل الأجدى ان يبدأ الناس بتحديد مفهوم العقل الذي يعنونه.
دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق