30/11/2022

هل حضرتم صلاة الجماعة؟


يقول بعض الزملاء ان الدعوة للحرية ، عبث لا طائل تحته. وهم يحتجون بأنه لا يوجد تعريف معياري  متفق عليه للحرية ، وأن المجتمعات الغربية قد أخفقت في تطبيقها ، رغم أنها عنصر محوري في الثقافة العامة لتلك المجتمعات ، كما انها جزء من الأرضية الفلسفية التي يقوم عليها نظامها الاجتماعي والقانوني.  فاذا كان مؤسسو هذا المبدأ قد اخفقوا فيه ، فغيرهم – أي المجتمعات الشرقية – أقرب للاخفاق وأولى به.

نعلم جميعا ان هذا كلام لا يصح في ذاته. كما لا يصلح دليلا على عبثية الدعوة للحرية في أي مجتمع ، شرقيا كان او غربيا.

دعنا نبدأ بافتقار الحرية الى تعريف معياري: الواقع ان الغالبية العظمى من دارسي العلوم السياسية ، متفقون على التعريف الذي اقترحه المفكر البريطاني ايزايا برلين في محاضرته الشهيرة "مفهومان للحرية". تتعلق اكثر بحوث ايزايا برلين بتاريخ الأفكار. وهو يرى ان مرور الزمن ينحت في الأفكار والمصطلحات الشائعة ، فيغير في مضامينها او في حمولتها السياسية او الأخلاقية ، او في موقعها ضمن منظومات القيم السائدة في المجتمع. لكن ثمة خيط خفي يربط بين النسخ العديدة للفكرة الواحدة ، رغم تحولاتها عبر التاريخ. هذا الخيط يدلنا على حقيقة الفكرة ، والمعنى العميق الذي يريد البشر اظهاره حين يستعملونها. وجد برلين نحو 200 تعريف مختلف للحرية. ثم حدد الخيوط التي تصل بينها ، فلخصها في معنيين ، اطلق على الأول اسم الحرية السلبية (الحرية من) وتعني الأمان من تدخل الاخرين اعتباطيا في حياتك. واطلق على الثاني اسم الحرية الإيجابية (الحرية في) أي التمتع بالحقوق التي ينشئها القانون. وأميل شخصيا الى اعتبار الأول شرطا لكرامة الانسان.

لكن دعنا نفترض انه لا يوجد تعريف واحد للحرية ولا معنى منضبط كما يقولون.. فهل هذا يبرر انكارها او استنكار الدعوة اليها؟. هل يتقبل الرافضون ان يطرق احد المارة باب بيتهم ، ليسأل ان كان اهل البيت قد حضروا صلاة الجماعة ام لا ، هل يتقبلون ان يوقفهم شخص في الشارع ، كي يفتش جوالاتهم للتأكد من انها لا تحوي أشياء سيئة ، هل يودون ان تقوم جهة ما بتسجيل مكالماتهم ، ثم مساءلتهم عما يقصدون بهذه الكلمة او تلك؟. هل يقبلون ان يتصل بهم شخص ، ليسألهم عن مصدر أموالهم وكيف صرفوها ولماذا ، هل يرغب أستاذ جامعي في ان يستدعى بين حين وآخر ، لتقديم مبررات كلامه للطلبة حول هذا الموضوع او ذاك؟. وأخيرا.. هل نرغب في رؤية شيء يشبه محاكم التفتيش التي أقيمت في القرون الوسطى ، للتحقق من "صحة اعتقاد" المتهمين بالابتداع والمروق عن الكاثوليكية؟.

لقد ضربت هذه الأمثلة لأنها  كانت تحدث فعليا ، في وقت من الأوقات في بعض بلدان المسلمين. وأعلم ان الذين يجادلون ضد الحرية لا يريدون أيا مما ذكرناه ، ويخشون جديا من حدوثه. ولهذا أقول لهم ان رفضهم لتلك الأمور ، هو التعبير الدقيق عن الرغبة في الحرية ، ولا سيما في معناها الأول. فلنبحث عن عاقل في أي مكان في العالم ، يقول بالفم الملآن انه يرحب بأي واحدة من التدخلات التي ذكرتها.

أخيرا.. أتساءل هل يمكن لمواطني أي بلد ، غربي او شرقي ، ان يتخلصوا من تلك التدخلات التي ذكرناها ، هل يمكن ان يضعوا قانونا يمنع المتدخلين والمتطفلين؟.

اجزم انهم سيجيبون بنعم. فهم بالتأكيد قادرون على منعها بقوة التثقيف او قوة القانون. وهذا بذاته دليل على إمكانية نجاح الدعوة للحرية وضمانها بالقانون ، في الشرق او في الغرب.

واضح اذن ان التعريف ليس مشكلة ، وان التطبيق في أي مجتمع ليس مستحيلا ، اليس كذلك؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 7 جمادى الأولى 1444 هـ - 30 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16073]

https://aawsat.com/node/4015911


مقالات ذات صلة

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج

التخصص ام سلطة المتخصص؟

التخلي عن التلقين ليس سهلا

حول البيئة المحفزة للابتكار

سلطة المدير

العلم والحيرة

فتاة فضولية

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...