29/06/2022

التخصص ام سلطة المتخصص؟


موضوع هذا المقال سؤال يتردد كثيرا في هذه الأيام ، ولا يحظى بالجواب المناسب. فحوى هذا السؤال: هل يصح لكل شخص ان يناقش في أمور الدين.. اليس علم الدين مجالا تخصصيا ، مثل الهندسة والطب والادب والتاريخ. هذا سؤال يتردد عادة على السنة الدعاة ، الذين يصعب عليهم رؤية مجالهم الخاص مستباحا لكل عارف ونصف عارف.

ما الذي يجري على وجه الدقة.. لماذا يرغب اهل هذا الزمان في نقد المواقف والأفكار التي تنسب للدين. وما الذي يثير القلق تجاه هذا النقد؟.

الارض على قرن ثور: النصب التذكاري لضحايا زلزال 1948 في عشق آباد-تركمنستان

اعتقد ان فكرة التخصص قناع يخفي مشكلة أخرى هي المرادة بالكلام. ونستطيع فهم هذا المراد اذا تجاوزنا ظاهر القول الى ما وراءه. ليس المقصود البحث عن "نية القائل" بل تأويل القول. وخطوتنا الأولى هي التحرر من قيد اللفظ ، والتفكير في الشواغل المحتملة للقائل ، أي: ما هو الباعث على السؤال وما الذي يبحث عنه السائل؟.

والذي أرى ان الباعث هو عدم القدرة على تجسير الهوة بين زمنين او نسقين من التفكير: يمكن ان نسمي الأول زمن التلقين ، أي الزمن الذي كانت المعرفة محصورة بمجملها تقريبا بين المشتغلين بالعلم الديني ، والقليل ممن يدور حولهم ، بينما كان بقية الناس اميين او شبه اميين. يومها كانت المعرفة تمنح صاحبها نوعا من النفوذ او السلطة. وكان بوسعه الإيحاء بالتطابق بين كلامه وكلام الله والانبياء والائمة ، فلا يعارضه أحد. كان العرف الجاري يومذاك ان يتقبل الناس ما يقال لهم ، لأنه كان النافذة الوحيدة لمن أراد المعرفة.

ثم مر الزمان وتوفرت المدارس ومصادر المعرفة لعامة الناس ، فبات في وسعهم مجادلة المعارف الدينية رجوعا الى مصادرها ، او محاكمتها رجوعا الى قواعد علمية أخرى. كان يمكن لأحد الفقهاء في الماضي ، ان يقول مثلا ان الله أقام الأرض "على حوت في البحر ، ووضع البحر على صخرة يحملها قرن ثور أملس" ، فيستمع اليه الناس مندهشين ، وربما هزوا رؤوسهم اعجابا بعلمه. اما اليوم فالمرجح ان بعضهم سينكر هذا القول او يسخر منه. وسيضطر الفقيه الى وضع شروح واحتمالات ، لكن أحدا لن يحمل قوله على محمل الجد.

نحن اذن ننتقل من زمن التلقين ، الى زمن المجادلة.

لكن الامر لا يقتصر على طريقة انتقال المعرفة. فلدينا أيضا الفارق في تقدير الذات والمسافة بينها وبين السلطات الاجتماعية (او الشخصيات المرجعية). كان انحصار المعرفة يسمح بحصر النفوذ او السلطة الاجتماعية. فلما انتشرت المعرفة ، لم يعد ثمة فارق يسمح بقيام سلطة او نفوذ. بات بوسع عامة الناس ان يختاروا نوع المعرفة التي تناسبهم ، وطبيعة العلاقة التي تربطهم بالآخرين. نحن اذن نتحدث عن زمن جديد ، تتسم علاقات الناس فيه بانها اقرب للتعاقدية الاختيارية (ربما المؤقتة في غالب الأحيان).

الثور والحوت يحملان الأرض. كتاب عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني

اظن ان الصورة قد اتضحت الآن. فالكلام عن التخصص ، مجرد قناع لمشكل آخر ، ربما كان غير واضح لطرفي النقاش. هذا المشكل هو انهيار علاقة السلطة التي قامت في اطار التلقين ، لان الزمن تغير ، فانتهى الظرف الثقافي الذي استوجبها. الذي يتحدث عن التخصص يطالب – في حقيقة الامر – بالعلاقة القديمة التي كانت تعطيه نوعا من السلطة. والذي يجادل انما يرفض هذا التراتب ، ويطالب بان يكون ندا وشريكا في صناعة  الفكرة ، أي مساويا للطرف الثاني في العلاقة.

لو أخذنا التحليل الى نهاياته المنطقية ، فقد يسعنا القول ان الذين يمارسون النقد في الاطار الديني ، او الذين يسخرون من الأفكار والممارسات غير العقلانية ، انما يعبرون عن رفض للتبرير الديني او الثقافي ، الذي انشلسلطة انشأ سلطة اجتماعية مغلقة او غير مرنة. الموضوع اذن ليس المعرفة بذاتها بل تجلياتها في التراتب الاجتماعي.

الأربعاء - 29 ذو القعدة 1443 هـ - 29 يونيو 2022 مـ رقم العدد [15919]

https://aawsat.com/home/article/3729966


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...