فكرة هذا المقال اقرب الى تفكير بصوت عال ، أتمنى ان يشارك الأصدقاء والقراء الأعزاء فيه ، وأرى ان الموضوع جدير حقا بالتأمل.
اما الموضوع فهو العلاقة بين الدين والمتدين ، الإسلام والمسلم خصوصا ، وهي مسألة لا تطرح للنقاش الا نادرا ، مع اني أظنها في غاية الأهمية. وهي تزداد غموضا مع زيادة احتكاك التقاليد الدينية بتحولات الحياة الحديثة.
الصورة الحالية للعلاقة المذكورة ، اقرب الى تنازع صريح أحيانا وضمني أحيانا أخرى ، بين اتجاهين:
** اتجاه سائد في المجتمع الديني ، يدعو الانسان للتسليم بما بلغه عن الله ، من أمر ونهي وقيم وقواعد ، بلا تردد ولا شك ولا نقاش ، لأنه مكلف بطاعة ربه.
** اتجاه يتبلور تدريجيا ، كنتاج لتطور مكانة الانسان الفرد ، وشعوره بذاته المستقلة عن الجماعة. ويتجلى في ميل الفرد لمساءلة موروثه الثقافي والمسلمات الشائعة في محيطه الاجتماعي ، ومن بينها خصوصا ، القيم والاحكام الدينية ، التي يظهر بعضها كقيد على الحرية الشخصية.
لقد مرت ازمان متطاولة ، ما كان الفرد المسلم فيها غير نقطة في بحر الجماعة ، شخصيته نسخة منها وهويته امتداد لهويتها. اما في هذا الزمان ، فان العالم كله ، يميل للتخفف من ثقل الهويات الكبرى والقوميات الممتدة ، وينظر للافراد كذوات مستقلة ، تشارك في توليف هويتها الخاصة ، كما تساهم في صياغة العالم الذي تعيش فيه.
لم يعرف تاريخ البشرية زمانا كهذا الزمان. لقد تراجع دور الدول والمنظمات الكبرى ، بينما تصاعد دور الأفراد في تطوير الاقتصاد الجديد والثقافة. وينسب الفضل في هذا الى التوسع الهائل لانظمة الاتصال الحديثة ، التي وفرت للافراد من مختلف الطبقات والفئات العمرية ، فرصا متعاظمة للتعرف على ثقافات العالم وتياراته وتحولاته. كما ان تزايد اعتماد العالم على التقنيات الرقمية والذكاء الصناعي ، جعل الافراد لاعبا رئيسيا في انتاج التطبيقات التي يحتاجها هذا الحقل ، وحولهم من أرقام في سجلات المنظمات الصناعية الكبرى ، الى صناع للارقام والمعادلات ، ومشاركين مؤثرين في تطوير اقتصاديات العالم الجديدة. ان المزيد من المعرفة يقود الى المزيد من تقدير الذات والمزيد من الاستقلال.
في تجارب اجتماعية سابقة ، كانت مثل هذه التحولات عاملا محركا للتساؤل حول ضرورة الأيديولوجيا وفائدة الايمان ، وحول علاقة الفرد بمصادر الأيديولوجيا والايمان. كما ان أسئلة مشابهة ، مطروحة بالفعل في مجتمعاتنا. ان كثرة ما يسمع من شكاوى حول ابتعاد الجيل الجديد عن التقاليد الدينية ، مؤشر على تفاقم تلك التساؤلات واخفاق المجتمع الديني في تقديم الأجوبة المناسبة.
في اعتقادي ان ظروف العالم اليوم ، تمثل فرصة سانحة لمراجعة النسق الديني بمجمله ، ولا سيما في اتجاه التحول من العلاقة القائمة على التلقي والانفعال (مثلما اشرت في مطلع المقال) الى علاقة تفاعلية ، تحقق احدى ابرز الغايات التي تستهدفها الرسالات السماوية ، أعني بها مشاركة الناس جميعا ولا سيما المؤمنين ، في إعادة انتاج نموذج للحياة الدينية ، يلائم حاجات العصر والزاماته.
لقد جرت العادة (وترسخت بمرور الزمن) على النظر للدين على انه نسق جمعي ، يتمثل في كيان اجتماعي خاص ، له أيديولوجيا رسمية وقيادة وتقاليد ، وهو محاط بسور يميز بين اهل الداخل واهل الخارج. جوهر فكرة التدين هو الانتماء الى هذه الجماعة.
وقد حان الوقت للانتقال الى نسق/بارادايم جديد ، يتمثل في ثقافة مشتركة جوهرها الورع والتقوى ، أي الخوف من الله والرغبة في العمل الحسن وتجنب الفعل القبيح. نسق يجمع بين بني آدم جميعا ، باعتبارهم مخاطبين بأمر الله ، من دون تمييز بين اهل الداخل والخارج.
الشرق الأوسط الأربعاء - 9 ذو القعدة 1443 هـ - 08 يونيو 2022 مـ رقم العدد [15898]
https://aawsat.com/home/article/3690591
مقالات ذات علاقة
«21» الفردانية في التراث الديني
أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم
في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء
القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة
المسألة القومية واستقلال الفرد
مكانة "العامة" في التفكير الديني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق