بعض القراء الأعزاء افترض ان ما ورد
في مقال
الأسبوع الماضي ، يدحض حجة الذين انكروا دور العقل في صناعة القيم ، سواء كانت
دينية او غير دينية. وقد ذكرت هناك ان العقل هو الذي مهد للإنسان طريق الايمان ،
حين اكتشف التوحيد وانطلق منه لفهم الكون والطبيعة. فكيف اتكلنا على العقل في اعظم
القيم واعلاها ، وانكرنا دوره في الفرعيات وتفاصيل الحياة؟.
مايكل ساندل
ان التأكيد على محورية العقل وأهمية
دوره ، لا يعني ان منكري هذا الدور جهلة او متنطعين. فهم كغيرهم من أهل العلم ، يتبعون
منهجا محددا في الوصول للحقائق ، وعلى أرضية هذا المنهج أقاموا حججا قد لا ترضي
مخالفيهم ، لكنها ليست بلا أساس. أقول هذا طمعا في اقناع أصدقائي بالانصاف ، حين
يجادلون فكرة او يتخذون موقفا. مجادلة الأفكار ليست حربا مع المخالف. ومثلما أعطيت
نفسك حقا في تبني فكرة او موقف دون استئذان مخالفيك ، فجدير بك – ان كنت محبا
للعدل – ان تقر لهم بنفس الحق ، بلا نقص ولا تطفيف.
الذين أنكروا دور العقل في صناعة
القيم الأخلاقية والدينية ، لديهم نوعان من الحجج ، بينهما تداخل واضح. النوع الأول
خلاصته ان تلك القيم وظيفتها توجيه الانسان نحو الكمال. فينبغي ان تصدر عن كامل. ونعلم
أن العقل البشري ليس كاملا ولايدعي
الكمال. فكيف يكون هذا الناقص صانعا للقيم وميزانا لقياس جودة الصناعة في آن واحد.
هذا اشبه بجعل المدعي قاضيا ، او نظيرا لحبيب المتنبي الذي قال فيه "فيك
الخصام وانت الخصم والحكم". هذه الرؤية شائعة بين الاتجاهات الدينية ، التي
تنادي بجعل تعاليم الوحي مصدرا وحيدا او مرجعا أعلى للقيم الدينية والأخلاقية.
لكنهم يتساهلون في منح العقل دورا كاملا خارج هذا الاطار.
اما النوع الثاني من الحجج ، فخلاصته
ان عمل العقل يتسم – عموما – بأنه تجريبي ، يتعلم الصحيح بعد ارتكاب الخطأ. الحياة
عموما تجربة متصلة ، تتألف من عشرات التجارب الصغيرة تشكل حياة الانسان اليومية. أخطاء
التجارب قابلة للاحتمال ، طالما بقيت في إطار الحياة الفردية ، او حتى حياة عدد
قليل من الناس. لكن هل يصح تحويل حياة البشرية كلها ، أو حياة بلد بكامله ، الى موضوع
لتجربة ذهنية أو مادية ، يجريها شخص واحد او بضعة اشخاص؟.
كنت
قد نقلت في نوفمبر الماضي القصة التي ذكرها برنارد ويليامز ،
الفيلسوف المعاصر ، عن "جيم" الرحالة الذي وضعته أقداره امام خيار مرير:
ان يقتل شخصا واحدا بلا ذنب ، كي ينجو 19 من رفاقه ، او يمتنع فيموت الجميع. أورد
ويليامز القصة في سياق نقده للفلسفة النفعية التي تعتبر الفعل صحيحا (أو عادلا) اذا
حقق منفعة اعظم لعدد اكبر من الناس ، ولو تضرر جراءه عدد قليل او كان الضرر بسيطا.
مثل هذه القصة يتكرر كثيرا في الحياة العامة. وتحدث عن نظائر لها مايكل
والزر في مقالته الشهيرة "الفعل السياسي: مشكلة
الايدي القذرة" وقد عرضنا لبعض ما ذكره في مقال سابق. كما تحدث عن
الموضوع نفسه مايكل
ساندل في سلسلة محاضرات بعنوان "ما الذي يصح فعله".
والحق ان مواجهة هذا الخيار ليس بالأمر الهين ، لكنه يمثل تجسيدا لنوع من التجارب
الحياتية التي يواجهها الناس يوميا في اطار حياتهم الخاصة ، ويواجهها السياسيون
والعلماء حين يخوضون تجارب يتأثر بها ملايين من الناس.
ترى
ما الذي ينبغي للرحالة ان يختار. اعلم ان كثيرا من الناس سيختار قتل فرد واحد كي
ينجو البقية. لكن هل هذا هو الفعل الصحيح؟. مثل هذه التجارب العسيرة التي تتداخل
فيها مبررات عقلية وعاطفية وإرادات متباينة ، هي التي تدعو الاخباريين الى اعفاء
العقل من هذه المهمة وايكالها الى قوة أعلى يقبل الناس جميعا بخياراتها. هذه القوة
هي الخالق سبحانه او قانون الطبيعة ، او أي قوة أخرى لديها مسطرة واحدة لا ترجح
أحدا على احد حين تختار.
الشرق الأوسط - الخميس - 03 ربيع الثاني 1447 هـ - 25
سبتمبر 2025 م https://aawsat.com/node/5190079
مقالات ذات علاقة
ثنائية الاتباع والابتداع
حين تكره الدنيا: طريق البشر من الخرافة الى العلم
طرائف التاريخ وأساطيره
عقل
الاولين وعقل الاخرين
عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة
المسلمات
الفكــرة وزمن الفكـرة
الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة
كهف الجماعة
مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ
الانسان
هل
العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق