منذ قديم الزمان وحتى اليوم ، عرف المجتمع البشري أشخاصا ، يرون الكون فوضى: أجزاء تتحرك في كل اتجاه ، من دون ترابط بين حركة وأخرى أو تفاعل بين جزء وآخر ، أو سبب أو علة تفسر هذه الحركة او تلك. في الماضي السحيق ظن بعض البشر ان آلهة تغضب او ترضى أو تتصارع ، فينعكس ذلك في حركة النظام الكوني. إله البحر يغضب فيحرك الأمواج العاتية كي تغرق السفن ، أو يرضى فيأتي السمك قريبا من الشواطيء. ويتفاهم إله المطر مع إله الريح فيأتي المطر خفيفا لطيفا ليسقى الأرض العطشى ، فاذا تخاصما تحول المطر سيولا جارفة تهلك البشر والشجر.
ساهمت الأديان التوحيدية ، ثم
الفلسفة ، في اقناع البشر بأن الكون نظام واحد ، متكامل ومعقول ، الامر الذي سمح بالتفكير
فيه وفهم العلاقة بين أجزائه. هذه الفكرة حررت العقل البشري من خوف الطبيعة ، وسمحت
له بالتطلع لاستثمارها وتسخيرها لتحسين مصادر عيشه. تطور العلوم كان ثمرة لتعمق العقل في فهم الطبيعة
ونفوذه الى أعماق قوانينها ، واستيعابه لكيفية انتظامها وتفاعلها مع بعضها.
حين
انشق حجاب الغيب وانكشفت أسرار الكون ، برز العقل كقائد لحياة البشر ، فاستبشر به
معظمهم. لكن بعضهم شعر بالحيرة إزاء ما سيأتي لاحقا ، وشعر آخرون بالرعب من ان يستثمر
فريق منهم القوة الهائلة التي وفرتها عقولهم ، للتحكم في الضعفاء أو حتى استعبادهم.
صعود العقل لم يكن مريحا لكثير من الناس.
حوالي
القرن الرابع عشر الميلادي ، شهد العالم القديم كله تقريبا ، من غرب اوربا الى
الهند ، تراجعا في حركة العلم (ومن ضمنه علم الدين) وصعودا مفرطا في أهمية القوة
العسكرية. ونعرف أن هذا النوع من التطورات يؤدي لانحسار الأمان النفسي (الطمأنينة)
عند عامة الناس ، فيجري التعويض عنه بنمط ثقافي يلعب دور السلوى والمواساة.
يؤدي
بروز هذا النمط الثقافي (نمط السلوى والمواساة) الى شيوع الوظائف التي تخدمه ،
وأبرزها تأليف وتلاوة القصص الشعبي (السوالف حسب التعبير الدارج في الخليج) وممارسة
السحر وادعاء قدرات خارقة. ويجري تسويق هذا النمط بتضمينه مواعظ وتوجيهات او
اقاصيص منتقاة من حوادث التاريخ. ان العامل الأكثر تأثيرا في شيوع ثقافة السلوى وازدهار
عمل القصاصين ، هو اخفاق المجتمعات في حل مشكلاتها ، من الفقر الى القهر او الشعور
بانسداد الآفاق.
هذه
هي الأرضية التي ينبت فيها العقل الاخباري. منطلق العقل الاخباري هو التسليم بمعيارية
النص المروي ، وكونه تلخيصا صادقا للنموذج الأمثل. انه عقل ينشد الكمال. لكن ليس
من خلال اجتهاده الخاص ، ولا مكابدة الاكتشاف والتعمق في فهم العالم ، بل من خلال مطابقة
السلوك الحياتي الحاضر ، بالنموذج الذي جرى تبجيله ، لسبب ديني او دنيوي. جوهر
الخطاب هنا يعبر عنه القول المنسوب
الى الامام مالك "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". وللمناسبة
، فهذا المسلك ليس حكرا على المسلمين ، فكل الأمم فيها تيار واسع يذهب هذا المذهب.
ولدى كل منهم مبررات جديرة بالتأمل.
يتسلح
العقل الاخباري بمكتبة ضخمة ، مليئة بتراث الأقدمين من نصوص معيارية وآراء وأحكام
وتجارب حياتية. هذه المكتبة تحولت الى حياة كاملة عند بعض الناس ، يتحدث بها وعنها
، ويجادل دونها ، ويعيد قراءتها وشرحها ، وتحقيق شروحات السابقين عليها. وثمة جدال
ينهض فترة ويتراخى فترة أخرى ، محوره سؤال متكرر بنفس الشكل والجوهر ، فحواه: هل
ثمة شيء وراء هذه المكتبة ، نبحث فيه عما يصلح حياتنا ، ام ان معرفة الدين ومراداته
وأسراره ، كلها مخزونة في رفوفها؟.
العقل
الاخباري شديد الفخر بمكتبته ، فكلما ناقش أحد مسألة من مسائل الدنيا ، استل
الاخباري رواية من هنا او هناك ، فشهرها امام المتحدث لايقافه عن كل قول مختلف عما
ورد في الرواية. اليس "كل الصيد في جوف الفرا" كما قال العربي القديم؟.
الشرق
الأوسط الخميس - 26 ربيع الأول 1447 هـ - 18 سبتمبر 2025 م
https://aawsat.com/node/5187446
مقالات ذات علاقة

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق