04/12/2019

من بوذا الى ابن سينا وكارل ماركس



سمعت باسم روجيه جارودي في دمشق ، صيف العام 1984. كنت أذهب كل أربعاء الى "مقهى الهافانا" ، ملتقى محبي الأدب والثقافة يومذاك. ويقع المقهى على الضلع الغربي لشارع بورسعيد ، على بعد امتار من تمثال يوسف العظمة الذي يتوسط ساحة تحمل اسمه أيضا.
تمثال يوسف العظمة وسط دمشق

اخبرني احد زملاء المقهى عن كتاب "ما يعد به الاسلام" الذي صدر حديثا[1] وقدم فيه جارودي الرؤية التي تبرر اختياره للاسلام ، بعدما بدأ بروتستناتيا ثم مناضلا ومفكرا شيوعيا ، ثم كاثوليكيا. اثار الكتاب فضولا شديدا عندي ، فقد وجدته – خلافا لما اعتدت – يدعو لاسلام مفتوح ، واسع الافق ، يحتمل كل الناس وكل الافكار ، من بوذا الى غاندي وابن سينا والحلاج وحتى كارل ماركس. والحق اني بقيت يوما كاملا ، لا تفارق عيناي الصفحة التي نقل فيها الابيات المنسوبة للعارف الشهير محي الدين بن عربي :

وقـد صـار قلبي قابلا كل صورة         فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيـت لأوثان وكعبةُ طائـــفٍ            وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن
أدين بدين الحب انى توجهت        ركائبه فالحب ديني وايماني

وزاد في جاذبية المقاربة ، انها جاءت وسط جدل محتدم يومذاك ، حول الامكانية العلمية والعملية لتجاوز المذاهب ، الى اسلام متحرر من الانتماءات الاجتماعية والتاريخية. وفي هذا الاطار صدر اكثر من كتاب يدعم أحد الاتجاهين او نقيضه ، واشهرها في ظني كتاب "اللامذهبية اخطر بدعة تهدد الشريعة الاسلامية" للمرحوم محمد سعيد البوطي ، الذي طبع عشر مرات خلال عقد الثمانينات وحده. واريد الاشارة هنا الى ان الصراع العنيف بين النظام السوري والاسلاميين ، لم ينعكس على الاعمال الثقافية ، كما لم تنعكس عليه الخلافات المتكررة مع الشيوعيين ، فكنت ترى الكتاب الاسلامي معروضا في المكتبات الى جانب الماركسي والليبرالي وغيره.

اقول اني قرأت كتاب جارودي على خلفية الجدل الذي شغل الساحة يومئذ ، حول امكانية الفصل بين الدين ، وبين دوائره الاجتماعية واطاره المرتبط بالهوية التاريخية ، أو "بين الجوهري والعرضي في الاديان" حسب تعبير المفكر المعاصر عبد الكريم سروش. في ذلك الحين ، كان الميل العام ينحو لاعتبار الهوية والانتماء الاجتماعي والشكل الخارجي ، لوازم للحقيقة الدينية ، لانها بذاتها اوامر دينية ، او لأنها تدعم هيمنة الدين على الحياة.

أما جارودي فرأى عالما يواجه مشكلات ، لم تفلح في علاجها الاديان والايديولوجيات: "المسيحية والاشتراكية بمختلف انواعها تبقى خميرة للتدافع والفرص ، لكنها لم توقف سعي الغرب الى حتفه". ولذا ظن ان رؤية كونية ، تشمل كل ما أنتجه البشر وما آمنوا به ، قد تكون بداية جدية للتعامل مع المشكلات الكونية من منظور كوني غير أناني. هذا يتطلب وفق رأيه ، نسخة من الاسلام أعمق مما ورثناه عن عصور التخلف والتنازع والانكماش: "اذا كنا نريد للاسلام أن يشارك في ابتكار المستقبل ، فعلينا ان نحول دون اختصاره في المواقف المتصلبة والتوترات والانفلاتات التي تحجب الفكر".

استرجع احيانا آراء هذا الفيلسوف المناضل ، وأتساءل ان كانت علاجا لبعض أدوائنا اليوم. اعلم انها لم تلق القبول المناسب في وقتها ، لكن لعل اليوم غير الامس. ولعله قدر الرؤى العابرة لقيود الحاضر والزاماته الى شرفات المستقبل وما ينطوي فيه من فرص وامكانات.

اعلم ان كتاب "ما يعد به الاسلام" كان موجها للقاريء الأوربي. لكني أجد فيه وفي طروحات جارودي الاخرى ، نداء لنا من زمن غير هذا الزمن.

الشرق الاوسط الأربعاء - 7 شهر ربيع الثاني 1441 هـ - 04 ديسمبر 2019 مـ رقم العدد [14981]



[1] روجيه جارودي: مايعد به الاسلام ، ترجمة قصي أتاسي وميشيل واكيم ، دار الوثبة (دمشق 1983م). وصدرت ترجمة ثانية للكتاب باسم "وعود الاسلام" ترجمة ذوقان قرقوط ، مكتبة مدبولي (القاهرة 1985).




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...