ربما يكون كتاب "الاسلام واصول الحكم"
للمرحوم علي
عبد الرازق هو اكثر الكتب التي تذكر في الجدل حول العلاقة بين الاسلام والسياسة
، رغم انه لم يكن اول من عالج المسالة. ولعل المجابهة الحادة التي ووجه بها
الكتاب ومؤلفه تعود الى ظهوره في ظرف ازمة ، الامر الذي جعله بالضرورة محشورا في
وسط تجاذبات تلك الازمة. وبالتالي فان قيمته العلمية لم يجر اختبارها ضمن اطاره
الخاص كعمل علمي. ومن المؤسف ان ابرز الاراء المتعلقة بدور الدين في الحياة
العامة قد ظهرت - كما لاحظ رضوان السيد ايضا - في ظروف ازمة ، وكانت بصورة او
باخرى اقرب الى التساؤل عما اذا كان لمعرفتنا الدينية دور سببي او نسبة من نوع ما
الى تلك الازمة.
الشيخ علي عبد الرازق |
كون
الازمات مولدة للاسئلة هو امر طبيعي تماما ، فهي تدل على وجود قدرة نفسية وثقافية
لممارسة النقد الذاتي ، لكني عبرت عن الاسف لان الوضع الطبيعي هو ان لا يقتصر
التفكير في مكونات الثقافة وادوات توليد المفاهيم والنطاقات المرجعية لقيم العمل
، على اوقات محددة سواء كانت اوقات رخاء او اوقات شدة. الثقافة مثل الخبز ، اذا
توقف انتاجه فلا بد ان يصاب المجتمع بالهزال الذهني كما يضعف الجسد اذا حرم
الغذاء.
قبل عبد الرازق عالج الموضوع الفيلسوف الاندلسي ابن
رشد في كتابه المعروف "فصل
المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال". ويتشابه العملان في
تحديد الاشكالية ، فكلاهما حاول تشخيص المساحة التي تخضع لتكييف الاحكام الدينية
بالضرورة ، وتلك التي تخضع لتكييف العرف بالضرورة.
كلا
العالمين اذن كان يهتم بتحديد المعايير ، أي الاجابة على سؤال : ماذا يصح وماذا لا
يصح. ومن هذه الزاوية فهما يختلفان جوهريا عن معالجة العلامة ابن
خلدون الذي حاول في كتابه ''المقدمة''
وضع توصيف سلوكي لكل من البعد الديني والبعد العرفي في الظاهرة الاجتماعية
الواحدة ، لا سيما في صعود وسقوط القوى السياسية.
لم يهتم ابن خلدون كثيرا بتقييم صحة او سقم المقولات التي تجادل
حول دور الدين او العرف. بل حاول من خلال وصف الحراك الاجتماعي والسياسي ان يقدم
تفسيرا عقليا لحدود فاعلية الدين من ناحية والعرف من ناحية اخرى في تكوين الظاهرة
وتطورها. وقد التفت بصورة خاصة الى الفارق الدقيق بين الحراك الذي طبيعته دينية
وذلك الذي طبيعته عرفية تلبس لباس الدين. واظن ان ابن خلدون قد سبق جان جاك روسو
في الاشارة الى تحولات الفكرة الدينية لدى ارتدائها ثياب الحركة الاجتماعية ولا
سيما ظهور ما سماه الاخير بالدين المدني.
يبدو اذن ان المفكرين الثلاثة كانوا مهمومين بتحديد الخط المائز
بين الدائرة الدينية والدائرة العرفية او - على سبيل الاجمال - غير الدينية. لكن
مقاربة الاولين كانت مقاربة تقييم بينما اتخذ الثالث مقاربة تحليلية وتفسيرية.
ويظهر لي ان التفكير في هذا الموضوع لا زال ابتدائيا ، فعلى
خلاف ما يظن كثيرون فان الاعمال العلمية التي كتبها مسلمون في هذه المسالة لا
زالت قليلة ، وهي مهمومة الى حد كبير بالتوصل الى احكام اكثر من اهتمامها بوصف
حركة التفارق والتلاقي بين الديني والعرفي في داخل الظاهرة الاجتماعية الواحدة ،
كما فعل ابن خلدون في الماضي. بطبيعة الحال فالادوات الجديدة التي توفرت في نطاق
العلوم الانسانية تقدم امكانات مراقبة وتفسير للظواهر ادق مما توفر لابن خلدون في
عصره.
يمكن فهم حركة التلاقي او التفارق بين الديني والعرفي ضمن
سياقين : الاول هو التمايز بين الديني - او العرفي - كايديولوجيا وفلسفة من جهة.
أو كمسار تحول من المطلق الى المحدد. نحن نفهم مثلا ان تحويل الاحكام الشرعية الى
قانون رسمي يؤدي بالضرورة الى نقلها - فلسفيا ومفهوميا - من دائرة الدين الى دائرة
العرف.
اما السياق الثاني فهو سياق التفارق الناتج عن ظهور استقلالية
كل واحد من النطاقات التي جرت العادة على اعتبارها مختلطة او مشتركة ، مثل نطاق
الدين ، نطاق الفلسفة ، نطاق الفن والادب ، نطاق السياسة ، نطاق العلم. الخ. كل
من هذه النطاقات مستقلة موضوعيا ، لكنها - ضمن بعض الظروف على الاقل - تبدو
متشابكة مع الدين. ان اكتشاف استقلالها لا بد ان ينعكس على تصنيفها ضمن الدائرة
الدينية او تحويلها نحو الدائرة العرفية.
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/7/24/Art_128685.XML
عكاظ 24/7/2004 م
العـدد : 1133
مقالات ذات
علاقة
-------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق