23/11/2022

الليبرالية البغيضة!


بعض القراء الاعزاء يقولون كلاما فحواه انهم يحبون الحرية ، لكنهم يبغضون الليبرالية. هذا ليس أمرا سيئا بطبيعة الحال ، فلكل منا طريقة في عيش حياته ، وفي التعبير عن أولوياته ، واختيار الاطار الذي يجمع اطراف رؤيته لذاته والعالم المحيط به. وهذا هو المضمون الداخلي لما نسميه "الانتماء".

بيان ذلك: حين يقول شخص انه مسلم او ليبرالي او يساري او محافظ ، وحين تصف فتاة نفسها بانها نسوية او قبيلية الخ.. فان كلا من هؤلاء يشير الى الاطار الذي تنتظم فيه الرؤى والصور العديدة ، التي تشكل ما نسميه الرؤية الكونية ، أي فهم الانسان لذاته وحياته وموقعه ، وطريقة تعبيره عنها. انها اقرب الى عنوان الكتاب الذي يلخص ، في كلمات قليلة ، الفكرة العامة التي تشرحها مئات الصفحات.

  الانتماء - اذن - ليس علاقة مادية تربط الانسان بالمكان او بالأشخاص الآخرين ، بل هو حالة ذهنية ، مضمونها الرغبة في الوقوف تحت هذه اللافتة او تلك ، حمل هذا الوصف او ذاك. قد يكون الامر قرارا واعيا ، مسبوقا بتأمل وربما تعاقد واتفاق مع بقية أعضاء الجمع (كما يحصل حين تنتمي الى شركة او حزب سياسي مثلا) وقد تكون مجرد رغبة أحادية بالانخراط في حشد تربط بينهم عاطفة مشتركة ، مثل الالتحاق بمشجعي ناد رياضي مثلا.

واذا كنت تنتمي لمجتمع شرقي ، وقررت تبني الليبرالية كمذهب في السياسة او في الحياة ، فان قرارك هذا سيكون – على الاغلب – نتاج تأمل ومكابدة ذهنية ، تتضمن سلسلة من المجادلات الداخلية ، حول المكاسب والخسائر ، وردود فعل المحيط الاجتماعي على ما يعتبرونه انحيازا عن الطريق المعتاد.

حين يدعي شخص ما الانتماء الى الليبرالية كتيار سياسي او كمنهج حياتي ، فهو يشير الى قناعته بشريحة من العناصر التي تشكل أركانا أساسية لهذا المذهب ، وفي طليعتها الحرية. الحرية جوهر المذهب الليبرالي ، وهي الفارق الرئيس بينها وبين اي مذهب آخر ، ومن هنا فان نزعها يعادل الغاء المذهب كله.

ما يميز الليبرالي عن عامة المؤمنين بالحرية ، هو قناعته بفوقيتها على أي قيمة أخرى. فلو احتجنا الى استثناء او تعديل ، بناء على قيمة المساواة او النظام او التكافل مثلا ، فان هذا التعديل يجب ان يؤسس على أرضية الايمان بالحرية ، وكونها الفرض الأولي والمعيار الرئيس ، في تعيين ما هو صحيح وما هو خطأ. من الأمثلة الشهيرة في هذا الصدد نذكر رأي الفيلسوف المعاصر جون رولز ، الذي عارض الليبرالية الكلاسيكية ، لصالح نظرية في العدالة تركز على انصاف الطبقات الضعيفة ، إلا أنه أكد في كل جزء من شروحاته لتلك النظرية ، على ان الحرية الفردية جزء حيوي في مفهوم العدالة ، بحيث لا يمكن التضحية بها ، حتى لو توقفت على هذا مصلحة المجتمع كله. تبعا لرؤية رولز ، فان هدر حرية الفرد تعادل هدر العدالة الاجتماعية في ادق تعريفاتها.

ليس ضروريا ان تقف تحت لافتة الليبرالية ، مع انها اكثر العناوين اشراقا. ما هو مهم في حقيقة الامر هو ان تؤمن بالحرية في معناها الكامل ، أي كون حريتك الشخصية معادلة لحق الاخرين في ان يعيشوا حياتهم دون تدخل او جبر. وان التمتع بالحرية يعادل الإقرار بالمسؤوليات والتكاليف التي تترتب على الحرية والتي تؤدي بالضرورة الى تحديدها. وأخيرا الايمان بان التطبيق الحضاري لمفهوم الحرية ، ممكن فقط في ظل المجتمع المدني وسيادة القانون ، القانون الذي يصون حرية الجميع ، فيمنع تدخل الاخرين في حياتك ، كما يمنعك من التدخل في حياة الاخرين.

الشرق الاوسط الأربعاء - 29 شهر ربيع الثاني 1444 هـ - 23 نوفمبر 2022 مـ رقم العدد [16066]

https://aawsat.com/node/4002711/

مقالات ذات علاقة

الأخ الأكبـــر

طريق التقاليد

الطريق الليبرالي

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات 

الليبرات والليبرون المكبوتون المخدوعون 

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

الليبرالية ليست خيارا

منهجان في فهم الحرية

نموذج مجتمع النحل

نهاية الليبرالية

الهجوم على الليبرالية ليس سيئا 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...