02/03/2022

عرب اوكرانيا وعرب روسيا


قليل من الناس كانوا واثقين من ان القوات الروسية سوف تطرق أبواب العاصمة الأوكرانية هذا الأسبوع. انا واحد من كثيرين اعتقدوا ان موسكو تطبق الاستراتيجية المسماة "حافة الهاوية" التي تنسب الى جون فوستر دالس ، وزير الخارجية في عهد الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور. تقترح هذه الاستراتيجية التلويح الشديد بالحرب وحشد القوات وتأزيم الموقف ، الى حد يقنع جميع الأطراف بان الحرب باتت قاب قوسين أو أدنى. عندئذ سوف يتنادى الجميع ، لاقناع المتصارعين بتقديم التنازلات الضرورية لدرء الكارثة. لأن خسائر السلم ، مهما تعاظمت ، فلن تساوي كوارث الحرب.

يبدو الآن ان توقعاتنا لم تكن دقيقة ، وأن الرئيس الروسي لم يذهب الى أوكرانيا للتهديد ، بل لانجاز مهمة رفض الاوكرانيون تنفيذها. اخفاق توقعاتنا ليست بالأمر المهم على أي حال ، فهو يحدث تكرارا. لكني اردت استثمار المناسبة للحديث حول جانب أثار اهتمامي فيها ، وهو يتعلق بالثقافة السياسية العربية.

دعني أبدأ بتوضيح الفارق بين السياسة والثقافة السياسية. يستحيل – في ظني – تعريف السياسة بكلام مختصر جامع مانع. ولذا سأقترح وصفا لماهيتها ، فهي عندي "علاقة تنطوي على استخدام صريح او ضمني لمصادر القوة العامة ، بغرض الجبر المباشر او غير المباشر ، في المجال العام/غير الشخصي". اما الثقافة السياسية فهي تصور الانسان لنفسه كفاعل في "الحياة العامة" او متأثر بتحولاتها. وتشمل افعاله وردود فعله وفهمه للأشخاص والاشياء في عالم السياسة بشكل خاص.

تأثير الثقافة السياسية يتجسد في موقف الفرد تجاه الدولة والقوى الاهلية التي تمارس نوعا من السلطة او تسعى اليها. كما يظهر في موقفه من القوى والدول الاجنبية ، التي تثير اهتمامه لسبب او لآخر.

بالعودة الى الحرب الروسية-الاوكرانية ، فقد اختلف الجمهور العربي حولها ايما اختلاف. وهو اختلاف يكشف عن تباين الثقافة السياسية بين مجتمعات ، لديها مصادر متماثلة للجانب الرئيس من ثقافتها ، اعني الجانب الذي يغذي الهوية القومية والدينية ، لكن تجربتها الحديثة مختلفة الى حد كبير.

من الواضح لكل متابع ان الناس منقسمون فعلا ، بين متعاطف مع اوكرانيا ومتفهم للموقف الروسي. الفريق الاول يسمي الاجتياح الروسي غزوا ، بينما الثاني يسميه "عملية عسكرية" فحسب. هذا الوصف بذاته ينطوي على حكم هو الاساس فيما يليه. الفريق الذي يصفه بالغزو ، يتقبل – من حيث المبدأ على الاقل – الاخبار والمواقف الصادرة من جانب اوكرانيا.

الطرف الثاني لا يجرؤ على امتداح الموقف الروسي ، او اعتباره – على سبيل المثال – انقاذا للشعب او قمعا للفتنة او عودة الفرع للاصل.. الخ. لكنه يراه مبررا فحسب. ولو طالعت السبب لوجدته في موقف الحكومة الاوكرانية من اسرائيل ، أو تحالفها مع واشنطن. وبعضهم يختصر المسافة ، ليخبرك بأنه حيثما وقفت الولايات المتحدة ، فهو يقف على الجانب المضاد. وكفى الله المؤمنين القتال.

هناك ايضا المواقف المتفرعة عن ازمات محلية. نعلم مثلا ان غالبية السودانيين يقفون مع اوكرانيا ، لأن حكومتهم تميل الى الجانب الروسي ، أو هكذا يظنون. كذلك الحال في سوريا ، وربما غيرها.

أوضحت لي هذه الأزمة ان غالبية العرب اتخذوا موقفا يعكس انشغالات سياسية راهنة. لكن اقلية صغيرة فحسب ، اتخذت مواقف مبدئية نظير رفض الحرب ، بالنظر لنتائجها الكارثية على البشر والعمران. لقد رأينا مثل هذا الموقف في روسيا نفسها وفي دول غربية عديدة ، فلماذا لم نر تعبيرات مماثلة في العالم العربي ، ام انها قد جرت فعلا ، لكنها لم تنل تغطية اعلامية ، على نحو ما حصل في الدول الاخرى؟.

 الأربعاء - 29 رجب 1443 هـ - 02 مارس 2022 مـ رقم العدد [15800]

https://aawsat.com/node/3505666/

مقالات ذات صلة

تفارق الافهام بين المجتمع والدولة العربية

حاكم ملتح وحاكم يستحي

سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة

مجتمعات متحولة

نادي الكبار ليس قيادة للعالم

الهوية السياسية للشيعة: من الانكفاء الى البراغماتية

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...