01/12/2021

تفارق الافهام بين المجتمع والدولة العربية

 

أشعر ان غالبية الدول العربية ، سيما التي تعيش ظروفا متأزمة ، في حاجة لمراجعة الارضية التي تقوم عليها شرعية الحكم. مفهوم الشرعية السياسية ينطوي في جواب السؤال التالي: ما هو المبرر الذي يعطي شخصا ما او هيئة ما ، الحق في الأمر والنهي والتصرف في أموال الناس وأنفسهم ، وما هو المبرر الذي يحمل الناس على طاعة تلك الأوامر.

من الضروري مراجعة وتجديد مصادر الشرعية ، في ظرف الاسترخاء السياسي على وجه الخصوص. لكنه يبدو اليوم ضروريا ايضا ، بسبب ما يظهر في الميدان السياسي ، من تفارق في فهم هذا الموضوع بالذات ، بين الجمهور والنخبة السياسية.

قانون الندرة: الجميع يتنافسون على موارد محدودة

بيان ذلك: تحاول النخب السياسية العربية تبرير سلطانها بالرجوع الى القانون. فهي تقول انها تحكم في اطار قانون معلن ، وان  أوامرها ونواهيها صادرة وفق هذا القانون). أما الجمهور فما زال يعتبر صاحب السلطة مسؤولا – بصفة شخصية – عن الوفاء بما قطعته الحكومة من وعود ، وما توقعه الجمهور من تحسن لأوضاع المعيشة والامن الخ.

   لفتت هذه المسألة انظار المفكرين منذ القدم. لكن جان جاك روسو ، الفيلسوف الفرنسي ، هو الذي وضع مفهوم الشرعية في صيغة محددة ، وربطها بالتفاهم الضمني بين الجمهور والنخبة. أوضح روسو مفهوم الشرعية في مقولته الشهيرة " "الاقوى ليس قويا تماما ، حتى يقتنع الناس بان ولايته عليهم حق له ، وان طاعتهم لأمره واجب عليهم". "الشرعية السياسية" من ابرز مباحث علم السياسة المعاصر. ويبدأ بحثها عادة بشروحات ماكس فيبر ، مؤسس علم الاجتماع الحديث ، الذي عالج المفهوم كما هو في الواقع ، وبغض النظر عن تفضيلاته الخاصة.

تحدث فيبر عن نموذجين للشرعية السياسية: تقليدي وعقلاني. اما التقليدي فيدور غالبا حول شخص الزعيم ، الذي يراه الجمهور صاحب حق في السلطان ، بغض النظر عن ممارسته السياسية الفعلية. مع مرور الوقت وبروز اجيال جديدة ، يبدأ الناس بالتفكير في "انجازات" الزعيم ، بوصفها عاملا شريكا في استمرار شرعيته.

لكن "الانجاز" مفهوم قصير الأمد ، بسبب المسافة الواسعة بين توقعات الناس وقدرة الدولة على تحقيق تلك التوقعات. يخضع عمل الدولة ل "قانون الندرة" ، الذي هو في الوقت ذاته السر وراء صعوبة ارضاء الجمهور (رضا الناس غاية لا تدرك ، كما نقل عن لقمان الحكيم).

يطالب الناس بأكثر مما تستطيع الحكومة انجازه ، فتضطر الحكومة لتذكيرهم بالقانون ، وهو الاطار الحديث/العقلاني للشرعية السياسية. اي انها تتحول من التأكيد على الانجاز كمصدر لشرعية سلطانها ، الى التأكيد على القانون كاطار ناظم لهذه الشرعية ومبرر لاستمرارها.

من الناحية الواقعية بلغ العالم العربي مرحلة الشرعية العقلانية. لكنه - على المستوى الثقافي – ما زال في مرحلة الشرعية التقليدية ، التي تتراوح بين الكاريزما والحق الشخصي. وقد ذكرت آنفا ان مطالبات الجمهور تتجه للاشخاص الذين تتألف منهم النخبة السياسية ، ولاسيما شخص الزعيم.

في اعتقادي ان تركيز الجمهور على الاشخاص مرهق لهم وللدولة معا ، فضلا عن كونه غير عقلاني وغير مفيد. ان الصورة المثلى للادارة العامة تتجلى في الفهم المشترك بين الجمهور والنخبة لقدرات كل طرف وحدوده ، والاطار الناظم للعلاقة بين الطرفين ، كي لا تتحول ادارة البلد الى نوع من التجاذب وترامي المسؤولية ، بدل التعاون على حمل الاعباء المشتركة. هذا يعني بالتحديد تحويل مفهوم القانون والشرعية المستندة اليه ، الى جزء نشط في الثقافة العامة ، والتأكيد على خضوع الجميع ، حكاما ومحكومين لمقولاته ، سيما في البلدان التي تعيش ظروف أزمة.

الشرق الاوسط  الأربعاء - 26 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 01 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15709]

https://aawsat.com/node/3334541/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...