أشعر ان غالبية الدول العربية ، سيما التي تعيش ظروفا متأزمة ، في حاجة لمراجعة الارضية التي تقوم عليها شرعية الحكم. مفهوم الشرعية السياسية ينطوي في جواب السؤال التالي: ما هو المبرر الذي يعطي شخصا ما او هيئة ما ، الحق في الأمر والنهي والتصرف في أموال الناس وأنفسهم ، وما هو المبرر الذي يحمل الناس على طاعة تلك الأوامر.
من الضروري مراجعة وتجديد مصادر الشرعية ، في ظرف الاسترخاء السياسي على وجه الخصوص. لكنه يبدو اليوم ضروريا ايضا ، بسبب ما يظهر في الميدان السياسي ، من تفارق في فهم هذا الموضوع بالذات ، بين الجمهور والنخبة السياسية.
قانون الندرة: الجميع يتنافسون على موارد محدودة |
بيان ذلك: تحاول النخب السياسية
العربية تبرير سلطانها بالرجوع الى القانون. فهي تقول انها تحكم في اطار قانون
معلن ، وان أوامرها ونواهيها صادرة وفق
هذا القانون). أما الجمهور فما زال يعتبر صاحب السلطة مسؤولا – بصفة شخصية – عن الوفاء
بما قطعته الحكومة من وعود ، وما توقعه الجمهور من تحسن لأوضاع المعيشة والامن
الخ.
لفتت هذه المسألة انظار المفكرين منذ القدم. لكن
جان
جاك روسو ، الفيلسوف الفرنسي ، هو الذي وضع مفهوم الشرعية في صيغة محددة
، وربطها بالتفاهم الضمني بين الجمهور والنخبة. أوضح روسو مفهوم الشرعية في مقولته
الشهيرة " "الاقوى ليس
قويا تماما ، حتى يقتنع الناس بان ولايته عليهم حق له ، وان طاعتهم لأمره واجب
عليهم". "الشرعية
السياسية" من ابرز مباحث علم السياسة المعاصر. ويبدأ بحثها عادة بشروحات ماكس
فيبر ، مؤسس علم الاجتماع الحديث ، الذي عالج المفهوم كما هو في
الواقع ، وبغض النظر عن تفضيلاته الخاصة.
تحدث فيبر عن نموذجين للشرعية
السياسية: تقليدي وعقلاني. اما التقليدي فيدور غالبا حول شخص الزعيم ، الذي يراه
الجمهور صاحب حق في السلطان ، بغض النظر عن ممارسته السياسية الفعلية. مع مرور
الوقت وبروز اجيال جديدة ، يبدأ الناس بالتفكير في "انجازات" الزعيم ، بوصفها
عاملا شريكا في استمرار شرعيته.
لكن "الانجاز" مفهوم قصير
الأمد ، بسبب المسافة الواسعة بين توقعات الناس وقدرة الدولة على تحقيق تلك التوقعات.
يخضع عمل الدولة ل "قانون
الندرة" ، الذي هو في الوقت ذاته السر وراء صعوبة ارضاء
الجمهور (رضا الناس غاية لا تدرك ، كما نقل عن لقمان الحكيم).
يطالب الناس بأكثر مما تستطيع
الحكومة انجازه ، فتضطر الحكومة لتذكيرهم بالقانون ، وهو الاطار الحديث/العقلاني
للشرعية السياسية. اي انها تتحول من التأكيد على الانجاز كمصدر لشرعية سلطانها ، الى
التأكيد على القانون كاطار ناظم لهذه الشرعية ومبرر لاستمرارها.
من الناحية الواقعية بلغ العالم
العربي مرحلة الشرعية العقلانية. لكنه - على المستوى الثقافي – ما زال في مرحلة
الشرعية التقليدية ، التي تتراوح بين الكاريزما والحق الشخصي. وقد ذكرت آنفا ان مطالبات
الجمهور تتجه للاشخاص الذين تتألف منهم النخبة السياسية ، ولاسيما شخص الزعيم.
في اعتقادي ان تركيز الجمهور على
الاشخاص مرهق لهم وللدولة معا ، فضلا عن كونه غير عقلاني وغير مفيد. ان الصورة
المثلى للادارة العامة تتجلى في الفهم المشترك بين الجمهور والنخبة لقدرات كل طرف
وحدوده ، والاطار الناظم للعلاقة بين الطرفين ، كي لا تتحول ادارة البلد الى نوع
من التجاذب وترامي المسؤولية ، بدل التعاون على حمل الاعباء المشتركة. هذا يعني
بالتحديد تحويل مفهوم القانون والشرعية المستندة اليه ، الى جزء نشط في الثقافة
العامة ، والتأكيد على خضوع الجميع ، حكاما ومحكومين لمقولاته ، سيما في البلدان
التي تعيش ظروف أزمة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 26 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 01
ديسمبر 2021 مـ رقم العدد
[15709]
https://aawsat.com/node/3334541/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق