23/03/2022

هل تعرف المفكرة؟


أغلى نصيحة تلقيتها ، هي التدوين. فقد حولتني من قاريء الى عاشق للبحث والكتابة. وهذه قصتها:

كنت في الصف الثاني ثانوي حين اخبرت أستاذا لي بكثرة ما يراودني من أسئلة وأفكار ، أريد طرحها للنقاش ، لكني لا أتذكرها في الوقت الملائم. قد أكون ماشيا في طريق المدرسة ، او منشغلا بقراءة كتاب ، او جالسا في الصف ، وأحيانا أكون في المزرعة او المقبرة ، فتنبثق في ذهني فكرة لا علاقة لها بالمكان او الزمان او الموضوع الذي أنا منشغل به. فأقول لنفسي: سأعود لاحقا للتفكير في هذا الأمر. لكن هذا "اللاحق" لا يأتي أبدا ، لأن تلك الفكرة تتلاشى من ذهني بعد دقائق فحسب ، ولا أعود قادرا على استذكارها.


قال الأستاذ مفسرا: ان هذا هو الذي يسمى "شوارد الأفكار". وهي نظير ما أشار اليه المتنبي في شعره المشهور: "أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم". قلت مستدركا: ما الذي تنصح به إذن؟. فاعتدل الأستاذ في مجلسه وأشار الى جيب صغير في باطن معطفه ، ثم قال فيما يشبه السؤال: هل تعرف هذا الذي يسمونه مفكرة؟. قلت: نعم اعرف هذا الذي يسمونه مفكرة ، واعرف ان قيمتها 100 فلس. فقال لي اشتر واحدة وضعها مع قلم حبر في جيبك ، وكلما راودك سؤال او  فكرة ، بادر بتسجيل ثلاث كلمات او أربع ، تذكرك به ، ولا تؤجله أبدا.

منذ ذلك اليوم التزمت بتسجيل ما يراودني من أفكار ومن أسئلة. ربما أكتب عنها سطرا أو دونه ، وحين يأتي المساء اسجل الفكرة بقدر من التفصيل ، في دفتر خاص. وقد لاحظت ان الكتابة الثانية تأتي أوسع كثيرا من الفكرة الأولى ، بل ربما أثارت أسئلة جديدة.

ثم بدأت أسجل ملخصات للمقالات والكتب التي أقرأها  ، والمحاضرات التي استمع إليها ، وأسجل أحيانا المعلومات التي أشعر انها ذات قيمة ، وأضيف الى هذه وتلك ما يعن لي من ملاحظات على الأفكار وأصحابها. ومع مرور الأيام تحولت هذه الى عادة ثابتة ، فامتلأ الدفتر بعد الدفتر ، وصرت اعود اليها لاستذكار الأسئلة والقراءات السابقة. وحين بدأت في استعمال الكمبيوتر ، شرعت في الكتابة عليه بدل الدفاتر.

يسألني بعض الأصدقاء أحيانا عن الآراء التي استشهد بها والكتاب الذين اذكرهم ، وهم يتخيلون ان ذاكرتي حديدية ، أو انني اقضي اليوم كله في القراءة. الواقع ان سلاحي الوحيد هو تلك الملخصات والمدونات ، التي ترجع الى سنين طويلة. والتي كتبت عشرات المقالات والأبحاث اعتمادا عليها.

لو سألتني عن أفضل شيء فعلته لنفسي ، لأخبرتك انه التدريب على الكتابة وممارسة الكتابة. لأنها شجعتني على اقتحام عوالم لم أتخيل وجودها قبلئذ ، وساعدتني على تنظيم أفكاري. كما كشفت لي عن ضعف معرفتي في كثير من الحقول ، حتى تلك التي أدعي أنني ركزت عليها وتخصصت فيها. الكتابة التي تشعرني بجمال الحياة وبالسعادة ،  ثمرة من ثمرات التدوين. ولهذا اعد نصيحة الأستاذ تلك ، أغلى ما تلقيت في حياتي العملية.

واذا كان لي من نصيحة أقدمها لأصدقائي القراء ولعامة الشباب في بلدنا وغيره ، فهي التدوين: تدوين الأفكار التي تراودك والأسئلة التي تولدها تأملاتك في العالم والأشياء ، وملاحظاتك على ما تراه وما تقرأه وما تسمعه. إذا بدأتم في التدوين فسوف يقودكم هذا بشكل طبيعي الى نشر أفكاركم ، والانضمام الى قبيلة صناع العلم ونقاده ، وأحسب ان كثيرا منكم يرغب في هذا.

الشرق الاوسط الأربعاء - 20 شعبان 1443 هـ - 23 مارس 2022 مـ رقم العدد [15821]

https://aawsat.com/home/article/3547491/

 مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

دعـــــوة الى التعــــليم الخــــــيري

صناعة الشخصية الملتبسة

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

هل "تغوغلون" من المهد الى اللحد؟

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...