29/08/2018

اختيار التقدم

||جذر التقدم يكمن في سعي البشر لشق حجاب الغيب ، وتحويل ما وراءه الى مشهود ومعلوم. على نفس النسق فان المتخلف هو ذلك الانسان الذي يقرر سلفا عدم التفكير في الغيب الماثل أمامه||

التقدم والتخلف صفات نسبية. نقول عن مجتمع ما بانه متقدم ، نسبة لغيره في نفس الزمن ، او مقارنة بوضعه هو في أزمان سابقة. ان اقرب مثال على التخلف هو سيارة بطيئة في طريق سريع.The Structure Of Scientific Revolutions, Books & Stationery on ...
ثم ان أدوات التقدم وتطبيقاته تتغير بين زمن وآخر ، نظرا لتطور حاجات البشر ، وتغير الاسئلة التي يواجهونها في حياتهم. لكن ثمة جذر ثابت للتقدم لا يتغير أبدا ، الا وهو شق حجاب الغيب ، ونقل مكونات الحياة والطبيعة من دائرة المجهول الى دائرة المعلوم. علمك بالشيء يؤهلك - في الحد الأدنى – لانشاء علاقة منطقية معه ، و في الحد الاعلى  ، لتسخيره او استثماره.
ثمة شريحة واسعة من الشباب - وربما الكبار ايضا – يهوون فئة الافلام والقصص التي تسمى بالخيال العلمي. وهم يعلمون بطبيعة الحال ان ما يرونه مجرد خيال. لكن كثيرا منهم يؤمن في قرارة نفسه ، ان تلك الخيالات هي التي تحرض عقل الانسان على المغامرة. وهي قد تتحول يوما ما ، الى واقع يمشي على قدمين.
التخيل مثال على سعي العقل لتجاوز المشهود والمحسوس ، والتأمل في عوالم ممكنة او محتملة ، لا زالت خارج سيطرة الانسان. هذه العوالم قد تكون في الانسان نفسه ، او قد تكون في البيئة المحيطة به ، او في الكون الواسع البعيد عنه غاية البعد.
هذه العوالم الممكنة أو المحتملة ، هي ما يسميه القرآن غيبا. كما في سورة البقرة ، السورة الثانية في القرآن الكريم ، التي تبدأ بآيات تشير الى هذا المعنى "ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب". والغيب المقصود هنا هو الغيب النسبي او المؤقت ، وهو خلاف "مفاتح الغيب" التي لا يعلمها الا هو سبحانه ، كما في سورة الأنعام.
يذكرني هذا بالمجادلة الذكية التي قدمها توماس كون في كتابه القيم "بنية الثورات العلمية" حين قال ان الباحث يتوصل خلال تأمله في المشكلات والاسئلة ، الى العديد من الأجوبة المحتملة. لكنه – بدافع خفي – يتركها ويواصل بحثه ، حتى يصل الى ما يرجح انه حل صحيح. يتساءل كون: طالما لم يكن هذا الباحث عالما بالحل قبل ذلك ، فما الذي حمله على رفض الاحتمالات الاولى؟.
في رأيي ان ترجيح احد الاحتمالات ، تابع للمسلمات التي ينطلق منها الباحث. حين تنطلق من الاعتقاد بان الغيب صندوق مغلق ، فسوف تميل لجواب منقطع ، مثل القول بان الحل "في علم الله" ، أو أنه عمل السحرة ، او عمل الجن. أي أن المشكلة وحلها – في المجمل - خارج دائرة الامكان العقلي البشري.
أما حين تنطلق من الاعتقاد بان الغيب حجاب ، فسوف تفكر في المراحل المنطقية اللاحقة لكشف الحجاب ، اي الاشكالات التي ترد على الحل المحتمل. تصور الانسان للمرحلة الثالثة والرابعة ، هو الذي يرجح احد الاحتمالات ويستبعد الاحتمالات البديلة. تلك الاشكالات والمراحل تكشف الرابط المنطقي بين الحل والمشكلة.
زبدة القول ان جذر التقدم يكمن في سعي البشر لشق حجاب الغيب ، وتحويل ما وراءه الى مشهود ومعلوم. على نفس النسق فان المتخلف هو ذلك الانسان الذي يقرر سلفا عدم التفكير في الغيب الماثل أمامه ، باعتباره فوق ما يستطيعه عقل البشر. المجتمع الاقرب للتقدم هو الذي ينظر للكون كنظام مؤسس على علاقات منطقية. والمجتمع الاقرب للتخلف هو الذي اعتاد إحالة الاسئلة والمشكلات الى الجن والسحر وعجز العقل.
الأربعاء - 18 ذو الحجة 1439 هـ - 29 أغسطس 2018 مـ رقم العدد [14519] 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...