يتفق معظم المتحدثين في الثقافة
العربية على ان الارث الثقافي الذي انتقل الينا من الاسلاف ، عظيم الفائدة اذا
ما اتخذ دعامة للجهد الهادف الى تجديد
الحياة الاجتماعية في العالم العربي ، ذلك ان التراث ومعطياته الثقافية تشكل جانبا
مهما من ذهنية الانسان العربي ، التي تتضمن تصوراته عن نفسه والاخرين ، وطريقة
تفكيره وتطلعاته والقيم التي تنتظم حياته ، فهو من هذه الناحية يمثل الوعاء الذي يحتضن مقومات هويته .
ويبدو لي ان العرب يتاثرون بموروثهم
التاريخي بدرجة اعظم من اي شعب آخر، ربما لان تكون وتراكم هذا التراث ، قد تقارن
زمنيا وموضوعيا مع قيام الامة العربية ، التي تكونت كحقيقة وكيان محدد الملامح ،
في ظل سيرورة تاريخية كان محركها وناظمها
الاسلام ، بكل مافيه من عقائد وافكار وقيم ونظام حياة .
لهذا فمن الصعب بل من المستحيل التعامل
مع التراث ، باعتباره قابلا للالغاء او التهميش ، فهو متموضع في مكان القلب من كل
ماله علاقة بالثقافة في حياة الانسان العربي ، وعليه فان الخيار المنطقي هو
التعامل ايجابيا مع التراث في اي عملية ثقافية تتعلق بالمجتمع العربي.
البحث عن منهج
معظم الراغبين في التعامل مع التراث ، مثل الذين
يشككون في مكانته ضمن المنظومة الثقافية العربية ، لايزالون ـ مع افتراض امثل
الاحتمالات ـ يبحثون عن المنهج الاسلم في التعامل مع هذه التجربة التاريخية
العظيمة ، بكلمة اخرى فاننا لانزال نفتقر الى منهج متفق عليه ، للبحث في التراث بل
وفي المكانة التي ينبغي له ان يحتلها كمرجع او كمقياس .
وفي هذا المستوى فان الجدل الاساسي
ينصب على مايفترض انه قراءة انتقائية للتراث ، لاتاخذ بعين الاعتبار مجموع العوامل
التي تتشكل منها التجربة التاريخية للامة ، بل تنتقي مايرى الباحث فيه تدعيما لرأي
يتبناه او يدعو اليه ، ولذلك تجد تكرارا ان باحثين يدعون الى اراء متناقضة ،
بامكانهم العثور على مايكفي من الادلة من تلك التجربة لكي يدعم كل منهم رايه ، مما
يثير الشك في صحة المرجعية التي توفر الدعم للراي ونقيضه في آن واحد .
الخطاب الجماهيري
بالنسبة للباحثين المحترفين فان القضية
تبدو اسهل تناولا ، اذ يبدو من السهل الاتفاق معهم على ايجاد تراتب منهجي، بين
ماهو دين (نص ديني ) وماهو معارف دينية (شروح او تفاسير او استنباطات من النص ، او
اجتهادات محكومة بالقواعد المنصوصة) وماهو علوم تبلورت بموازاة العلوم الدينية ، دون ان تكتسب المرتبة الخاصة بالعلوم
الدينية ، او علوم تبلورت في الاطار الاجتماعي للجماعة المسلمة ، فهي منسوبة
للمجتمع وليس الدين .
لكن الصعوبة تاتي من الاختلاط القائم
بين البحث العلمي والخطاب الجماهيري ، اذ يضطر المتحدث الى عامة الناس ـ بحكم
العادة ربما ـ لعرض العديد من العناصر
التاريخية او الثقافية التراثية المصدر ، من اجل اثارة حماسة المستمعين ، وقد جرى
العرف على التساهل في الاستدلال بما يبدو ـ ظاهريا على الاقل ـ غير مخالف للاحكام
الشرعية ، من اجل تشجيع الناس على الاهتمام باعمال الخير او توجيه افكارهم الى
الحقائق التي لاينبغي لهم ان يغفلوها .
وهذا المنهج على الرغم من سلامة مقاصده
، يؤدي ـ في احيان كثيرة ـ الى اشاعة افكار او قيم لايمكن التاكد من صدقيتها ، نحن
نعلم ان الناس يتاثرون بالخطاب الذي يحوي اكبر قدر من الشواهد والاشارات الحادة ،
المثيرة للنشاط الذهني في بعد واحد ، وهم يستريحون الى حشد الادلة وراء الفكرة
التي يُدعون اليها ، الفكرة العامة ، المطلقة والاحادية البعد ، التي لاتحتمل ـ في
اذهانهم على الاقل ـ النقض او التخصيص .
ويمكن لنا ان نستوعب خطورة هذا المنحى ، اذا ما
وضعنا الافكار المتداولة بين عامة الناس عن الدين والتاريخ على مائدة النقد ،
واقمنا مقارنة بينها وبين ماهو ثابت الصحة ، عندها سنكتشف ان العديد مما يتداول
باعتباره بديهيا او متعارفا على كونه صحيحا ، هو في الحقيقة غير ذلك ، وقد جمع
الشيخ ناصر الدين الالباني نحو خمسة الاف من الروايات ، المنسوبة للرسول عليه
الصلاة والسلام ، مما تحفل به الكتب ويتحدث عنه المتحدثـون ، وهي مشكوكة او كاذبة
، وقد وجدت بينها عددا كبيرا مما تسالم الناس على صحته ، وتعارف المتحدثون على
قوله باعتباره ثابتا بل بديهيا ، ومثل ذلك يمكن القول عن القضايا التاريخية
والاراء في مختلف القضايا والامور ، مما يحتاج الى تمحيص ، لكنها تقال للناس من
باب التساهل او الطمع في ان تساعد على اقناعهم بالافكار الصحيحة ، لكنها ـ بعد زمن
ـ تصبح جزءا من ذاكرة الناس وتتداخل في النسيج الاصلي فلايعود من الممكن ـ عند غير
الباحثين المختصين على الاقل ـ تمييزها عن
العناصر الصحيحة .
زمن العجلة
ومما يزيد الطين بلة ان كثيرا من
المشتغلين بالشأن الثقافي ، ممن يتحدثون للناس او يكتبون لهم في وسائل الاعلام
المختلفة ، لاينفقون في البحث العلمي من وقتهم الا القليل ، وقد وجدت من متابعة
لعدد من هؤلاء ان معظمهم لديه اختصاص معين لكنه يتحدث في كل قضية ، كما لو انه قد
كشف له غطاء العلم ، فهم في ممارستهم للدعوة والتبشير بالافكار التي يتبنونها ،
لايتوقفون عن الحديث في اي موضوع طالما كان يخدم تلك الافكار ، بغض النظر عن
قدرتهم على التعامل معها او نقدها ، وغالبا
ماتجد احدهم شاغلا كل وقته في الكتابة او التبليغ والحديث الى الناس ، بحيث
لايتبقى لديه سوى القليل جدا من الوقت يصرفه بالكاد في استذكار مايريد الحديث عنه
في اليوم التالي ، ومثل هذا لايستطيع تخصيص الوقت الذي يحتاجه ـ في العادة ـ من
يريد التمحيص ، وياخذ على نفسه التحقق من كل امر قبل اعلانه على الناس . هذه
الطائفة من المشتغلين في الشان الثقافي هي الاكثر تواصلا مع الناس ، وهي في الوقت
ذاته اقل محترفي العمل الثقافي بذلا للجهد في الانتخاب والاختيار .
وجود مثل هذه الحالة ، وهي امر واقع
لايسع احد الغاءه ، هو مما يؤكد الحاجة الى بحث واسع يستهدف تقييم العناصر
المختلفة التي يتشكل منها موروثنا الثقافي ، لابراز ماهو صحيح وتسليط الضوء على
ماهو مصطنع او فاقد الصلاحية ، وهذا بدوره يدعو الى ايجاد منهج نقدي متوافق عليه
لتقييم تلك العناصر ، اضافة الى اشاعة مناخ من التسامح ، يوفر الفرصة لنقد الافكار
التي يعرضها هذا او ذاك من المتحدثين في الشأن الثقافي ، حينها سيكون كل متحدث
مطمئنا الى ان مايعرضه يتمتع بالموثوقية او مواجهة النقد ، حتى لاتقال الافكار
للناس ، فيترك الغث منها والسمين يدور في الانفس فيبني من جهة ويهدم من جهة اخرى .
نشر في (اليوم) 17 رجب 1415 - (20 ديسمبر 1994)
مقالات ذات علاقة :
مقالات ذات علاقة
-------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق