05/05/2021

الحرية بوصفها مشكلة

 

زميل عزيز لفت نظري الى ان السبب الرئيسي لقلق الناس من الحرية ، يكمن في ارتباطها بالتغيير. حين تقول لشخص: أنت حر ، فكانك تقول له: تستطيع الانعتاق من حالك الراهن ، من التزاماتك التي تربطك الى وضع سابق.

لايوجد سبب لتطلع الانسان الى الحرية ، سوى شعوره بالحاجة لتغيير الوضع الذي هو فيه ، والذي يراه قيدا عليه ، قيدا ماديا او ذهنيا او روحيا. ولا يوجد سبب كي يدعوك أحد الى تقبل الحرية ، سوى شعوره بأنك في حاجة الى تغيير وضع يراه مقيدا لك.

ان تاريخ النقاش في مفهوم الحرية ، يتوازى مع محاولات الانسان لتغيير ذاته ، وتغيير المكان الذي يحتله في الكون. قد يكون من ضروب المبالغة لو قلت ان التفكير في الحرية ، هو الذي فتح أبواب العلم ، وهو الذي أوجد حاجة الى القانون. أقول ان هذا قد يكون ضربا من المبالغة ، ولهذا لا اريد الإصرار عليه (ربما اعود اليه في مقال لاحق). لكن ما يمكن قوله – دون خشية المبالغة – هو ان كثيرا مما تعلمه الانسان ، جاء في سياق تطور فهمه للابعاد العديدة ، التي ينطوي عليها مفهوم الحرية ومشكلاتها.

كان الرق خلفية للنقاشات الأولى في الموضوع. بعض الناس رأوا ان استعباد البشر نقض للفضيلة ، وبعضهم اعتبروه امرا طبيعيا ، لا يعارض مقتضيات العدالة. في القرن التاسع عشر ساد انطباع عام بان الرق أمر بغيض ، حتى لو جرى تبريره بالحاجات الاقتصادية للمجتمع. ولهذا انتقل النقاش الى عوائق الحرية ، والعوامل التي تؤدي الى تقليصها او توسيعها. وظهرت عشرات من الأبحاث حول معنى ان يكون الانسان حرا ، وما يترتب على الحرية من ثمرات واضرار.

في منتصف القرن العشرين ، اشتبك النقاش في الحرية ، مع نقاش مواز في المساواة والعدالة. وبرزت نظريات تدعو لتكليف المجتمع والدولة ، مسؤولية تحويل الحرية من تطلع مثالي الى واقع يومي. ومن هذه الزاوية ، باتت الحرية جزء من مفهوم العدالة الاجتماعية. بل ان تنسيج الحرية في المنظور الفلسفي للعدالة الاجتماعية ، كان الرد الرئيس للنهج الليبرالي على نظيره الماركسي ، الذي أنكر إمكانية الحرية ، قبل تحقيق مستوى معيشي معقول.

ولعل بعض القراء يذكر الجدل الذي يثيره في العادة شعار "الحرية اغلى من رغيف العيش" الذي كان يطرح لتبرير حروب التحرر الوطني في بعض الأحيان ، وصراعات التحرر الاجتماعي ، أحيانا اخرى. مع انه في حقيقة الأمر ، لم يتحول الى معيار قطعي. فقد بقيت الحرية متأخرة عن رغيف العيش ، من حيث القيمة المطلقة.

لكن تجربة التمدن الغربي برهنت بما يقطع الشك ، على ان الانسان الحر اقدر على تدبير لقمة العيش لنفسه ولغيره ، بخلاف الانسان المقيد (ماديا او ذهنيا او روحيا) الذي لا يستطيع مغادرة مكانه ، ولا التفكير في بدائل عن الوضع الذي هو فيه.

منذ زمن سحيق ساد منظور يرى ان التقدم ، أي حل مشكلات الانسان ومشكلات العالم ، يكمن في الاستثمار الأكفأ لموارد الطبيعة. أرى اليوم منظورا مختلفا يتبلور بالتدريج ، فحواه أن تلك الحلول موجودة في ذهن الانسان ، وان ما يحتاجه الانسان هو "التحرر" من قيود الافهام المسبقة ، التي تعيق رؤية تلك الحلول. هذا يعادل تحول التركيز من العتاد (الهاردوير) كمحور للعمل الى الطريقة (السوفتوير) وهو تحول سيعرفه اكثر الناس.

الشرق الاوسط الأربعاء - 23 شهر رمضان 1442 هـ - 05 مايو 2021 مـ رقم العدد [15499]

https://aawsat.com/node/2955381/

 

مقالات ذات صلة

ان تكون عبدا لغيرك

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة موسعة 

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية بين مفهومين

الحرية عند أهل الفقه

 الحرية والنظام العام

الحرية والانفلات

الحرية وحدودها القانونية

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

العلاقة الجدلية بين الحرية ورضا العامة

عن الحرية والاغـتراب

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة

ملاحظات على حديث قصير – غريب

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

في تمجيد الحرية

يحبون الحرية ويخشونها

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...