16/01/2013

في كمال الاسلام وشموله


"مقتطف من كتاب الحداثة كحاجة دينية"

قال لي صاحبي: الذين دعوا بتلك الدعوات ، انطلقوا من حمية دينية وحرص على الدين. وهم يقيمون دعواهم على قاعدة ان الدين كامل شامل ، وان كتاب الله سبحانه قد احاط بكل شيء ، وما ترك شيئا الا بينه واوضحه ، قال تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء – الانعام 38).
قلت لصاحبي: سؤالك هذا يقودنا الى مناقشات كثيرة ، غير ما نحن بصدده. لكني اجيبك على سبيل الاختصار الشديد على فكرة كمال الدين وشموله. فالذي نتفق عليه هو كمال الدين. والكمال وصف للكيف "الكمال يقابل النقص". فلا شك ان الاسلام ليس بناقص.
اما الشمول فهو وصف كمي. ولو افترضنا ان شمول الاسلام منصرف الى معنى ان فيه حكما لكل شأن من شؤون الحياة ، فلا شك ان هذا غير صحيح. اذا لا يطلب منا اسلامنا ان نعود اليه في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الحياة. الا ترى اننا نقوم يوميا بعشرات من الاعمال التي لا نرجع فيها الى الفقيه ، بل الى عقولنا او الى اهل الاختصاص ، كالمهندس والطبيب وغيرهم. فهذه الامور ليست ضمن مجالات اشتغال الدين ، بل هي امور عقلية لا تكليف فيها ولا الزام ، ولا تدخل ضمن دائرة الثواب والعقاب او الواجب والمحرم.
 وبالمناسبة فهذا النقاش ليس جديدا ، فقد تطرق اليه بعض قدامى الفقهاء. وقد احتج بنفس المقولة الشيخ يوسف البحراني (ت-1772م) ، مستدلا بالاية السابقة وبقوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين-النحل 89)، ورد عليه الشيخ احمد النراقي (ت-1828م) بان المقصود هو ما يقتضي شأنه ووظيفته بيانه ، لا كل شيء على نحو الاطلاق. فالبديهي ان كثيرا من الامور لم تبين في الكتاب ، سواء الكتاب في معنى القرآن او في معنى الشريعة. وذلك لانها ليست مما هو مطلوب من الكتاب بيانه. كما ان عدم البيان لا يوجب الظن بالنقص فعدم بيان ما ليس مطلوبا ليس مظنة نقص. بل لعل بيان غير المطلوب يعد تكلفا. والتكلف مما يعاب على الكامل [1]. اما حمية اولئك الدعاة وحرصهم على دينهم ، فهي شعور مشكور ودليل على صلاح نيتهم ، ونسأل الله ان يثيبهم عليها. لكن صلاح النية شيء وصلاح العمل شيء اخر. الا ترى ان بعض الاباء يضربون ابناءهم بقصد التهذيب ، فيؤدي ذلك الى كراهية الابناء للاباء. بل الا ترى ان تشدد بعض قومنا في الزام غيرهم بطريقة تدينهم الخاصة ، قد ادى الى نفور هؤلاء من الدين كليا. فهذا وذاك دليل على ان النية الصالحة غير العمل الصالح. وقد كان حديثنا عن العمل وليس عن النية.

وعطفا على حديثنا السابق. اقول ان ذلك التكلف في ربط كل شيء بالاسلام ، قد عمق التفارق بين العلم والهوية الذي اشرنا اليه. كل مسلم في هذا اليوم ، يريد المحافظة على هويته ، ويريد في الوقت نفسه الحصول على العلوم الحديثة التي تطورت عند الغرب. نحن نعلم ان لا سبيل للحصول على العلم سوى بالتعلم من اهله. لكن بالنظر لما قلنا من تفارق ، فقد اصبحنا نعيش حياة مزدوجة: نرغب في ان نكون مثل الغرب في علمه وتقدمه وقوة مجتمعه ، وفي الوقت نفسه نعتبرها غير سليمة وغير مشروعة. وقد ادت هذه الازدواجية ، الى التضحية بجوهر مطلبنا ، اي التعلم واعادة انتاج العلم ، واستبدالها باستهلاك منتجات ذلك العلم. ترى دعاتنا مثلا ، بل جميع قومنا ، يتبارون في استخدام احدث التجهيزات التي انتجها العلم الغربي في كل مجال من مجالات الحياة. لكنهم لا يتوقفون عن شتم الغرب الذي انتج لهم هذه الاشياء.
ولو اقتصر الامر على الشتيمة لهان الامر.  لكن وراء هذا التركيز على التمايز والعداوة يكمن خلط رهيب بين فكرتين مختلفتين تماما: فكرة الاستقلال عن الغرب ، وفكرة الانفصال عنه. وقد كان الجدير بهم ان يركزوا على الاولى. اما الثانية فمستحيلة ، ومآلها تكريس الحاجة الى الغرب ، والبقاء متكلين عليه. 
فكرة الاستقلال تعني بالضبط: السعي للاكتفاء الذاتي في كل مجال ، في العلوم والاقتصاد والثفافة وغيرها. واول هذا السعي هو الانفتاح على الغرب للتعلم منه ، ثم اعادة انتاج ما تعلمناه ضمن اطارنا الثقافي الخاص. فاذا نجحنا في هذا المسعى ، فسوف نكون اندادا للغرب ، قادرين على الاستقلال عنه. ولا يضيرنا يومئذ الاتصال به او التعاون معه ، لان القوي والمكتفي لا يتاثر سلبيا بالتعاون مع منافسيه.
 اما فكرة الانفصال فان تطبيقها الفعلي هو التناكر مع الغرب ، اي الغاء القيمة المعنوية للعلم الذي نحصل عليه منه. ومآل هذا هو كسر السلسلة الطبيعية المفترضة لتطور العلم ، اي الانتقال من التعلم الى اعادة انتاج العلم ، ضمن الاطار الثقافي الخاص. وهذا ما نجده اليوم واقعا يمشى على قدمين. لقد تعلم عشرات الالاف من المسلمين في الغرب. لكن تلك العلوم لا تحصل على التقدير والقيمة التي تليق بها بين قومهم. ولهذا فان الاغلبية الساحقة من هؤلاء المتعلمين ، تكتفي بما تعلمته ولا تسعى الى تطويره ، اي لا تتعامل مع المرحلة الاولى كبداية لسلسلة ، بل هي بالنسبة اليها بداية ونهاية.





[1] قال البحراني بان الاخبار مستفيضة في ان كل حكم مبين في الكتاب والسنة حتى ارش الخدش. يوسف البحراني: الحدائق الناضرة (بيروت 1993) ، دار الاضواء ، ج. 24 ، ص. 382.  وعقد الكليني بابا خاصا عنوانه (باب الرد إلى الكتاب والسنة وانه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس اليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة) انظر الكليني : الكافي 1/113.
وهوّن النراقي من شأن الروايات الواردة بهذا الشأن واصفا اياها باخبار الاحاد ، وقال ان معناها بالتحديد هو ان ما كان فيه حكم ، فقد بين القرآن أو السنة ذلك الحكم ، لا انهما قد بينا الحكم في كل موضوع. احمد النراقي: عوائد الايام ، (قم 1408) ، مكتبة بصيرتي، ص. 123
ومن المحتمل ان راي النراقي كان يستهدف التاكيد على وجود دائرة من الاعمال خارج حدود التكليف ، ضمن الجدل القائم حول تعريف الاباحة وما اذا كانت حكما ام لا ، ومن المتفق عليه ان هناك موضوعات كثيرة لم ترد فيها احكام في القرآن والسنة ، وابرزها الموضوعات التي ظهرت بعد انتهاء عصر النص ، لكن البعض يجادل في ان هذه الموضوعات قابلة للتكييف ضمن احد الاطارات التي تندرج تحت القواعد الشرعية العامة ، واقترح المرحوم الصدر دائرة موضوعية للمستجدات اطلق عليها اسم منطقة الفراغ التشريعي ، وذهب إلى ان كثيرا من احكامها يستنبط استنادا إلى القواعد العامة والترجيح بين المصالح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...