بقلم د. احمد البغدادي
في
مقاله القيّم حول "الحداثة كحاجة دينية "، قام الدكتور عبد الحميد
الأنصاري بوضع الداء أو المشكلة، ولم يقدم للقارئ الدواء. والمقال في الواقع يطرح
قضية مهمة جداً يحاول المسلمون تجاوزها بالإنكار أو الرفض، في حين يدعو الأخ
الدكتور توفيق السيف، الكاتب الإسلامي إلى محاولة دمج الحداثة بالدين، من خلال
اقتناعه بإمكانية حدوث مثل هذا التمازج بين نقيضين أو خطين متوازيين. ولكن ما يعيب
المحاولة حقاً أنها لا تصمد أمام الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم. ربما سيكون
للدعوة صدى لو أنها ظهرت في عصر المأمون العباسي، مؤسس العصر العظيم لترجمة الفكر
الفلسفي اليوناني، حيث سادت العقلانية وانزوى الفكر الديني، وما ترتب على هذه
الخطوة العلمية العقلانية الجبارة من تسيّد العقل الإسلامي على الساحة الفلسفية.
كان من الممكن لهذه المحاولة، الدمج بين الدين والحداثة أن تنجز نسبياً لو أنها
جاءت في عصر المفكر ابن رشد، بل كان من الممكن أن تتم ولو جزئياً، في عصر ما بعد
استقلال الدولة العربية في منتصف الخمسينات. لكن الفكر الديني النصيّ ممثلاً
بالأزهر، وأد محاولات طه حسين وعلي عبدالرازق الهشة التي وقفت عند تخوم الحداثة،
ولم يُكتب لهذه المحاولة النجاح بسبب الفكر الديني.
قبل الحديث عن إمكانية التمازج الفكري بين الدين والحداثة، لابدّ أن
نعرف موقع الدين لدى الحداثة، لابدّ من مواجهة الحقيقة القائلة بأن تأسيس الحداثة
ما كان له أن يقوم لولا الدعوة الصارمة لقطع العلاقة القائمة في العصر الوسيط بين
الدين، ممثلاً بالكنيسة الكاثوليكية والإنسان المسيحي، إضافة إلى الدعوة للتخلص من
أسر الحكم المطلق، وهو ليس بذي أهمية بالنسبة لموضوعنا الخاص بالعلاقة بين الدين
والحداثة.
جوهر الحداثة المتمركز حول تخليص الإنسان من أسر
الهيمنة الدينية الكاثوليكية، أصبح جوهر كل دعوة للحداثة، أو لأي مجتمع يريد الأخذ
بهذه الحداثة، بغض النظر عن نوع الدين القائم، الهندوسية أو الإسلام أم البوذية،
لا فرق من حيث المبدأ، ولا مجال لاستفراد الفكر الديني الإسلامي بقضية غير قائمة
أصلاً في أذهان صانعي الحداثة الغربية. لقد أصبحت الحداثة ظاهرة غربية عالمية لابد
من الأخذ بها إذا أراد المجتمع تحقيق التطور والتقدم الفكري والحضاري. والمجتمع
المسلم ليس استثناء من القاعدة.
حين نقول إنه لا مجال للمزاوجة بين الدين الإسلامي والحداثة، لا
ننطلق من موقع التشاؤم، بل من منطلق معرفة الواقع الديني القائم في العالم العربي-
الإسلامي. وهو واقع رافض للحداثة من حيث المبدأ. ألا ترون تسمية
"الأصالة" في مواجهة "الحداثة "، وحيث يتم تثبيت الجوهر
الديني لهذه الأصالة. فالفكر الديني، وليس فقط العقيدة، يرفض الحداثة، ومن يرى ذلك
محق. وإذا ما حاول البعض مثل الدكتور توفيق السيف، من السعودية السعي لتحقيق عملية
المزج بين الحداثة والدين، سيصطدم ولاشك، بصلادة العقيدة الدينية والفكر الديني
الذي يصنعه الفقهاء.
الحداثة، احتواء وتغييب للسلطة الدينية، في حين أن الدين مجال قائم
بذاته ولذاته. كيف يمكن الجمع بين موضوعين نابذين لكل منهما؟ هذا هو المستحيل
بعينه. ولذلك أعتبر مثل هذه المحاولات مضيعة للوقت وفيما لا طائل من ورائه، مع
الاحترام التام لمن يدعو لهذه المحاولة، لكن لو وقفوا لحظة تفكير مع أنفسهم ومن
واقع الهيمنة الدينية القائم اليوم في مجتمعنا العربي، لوجدوا أن الأمر أصعب مما
يتصورون. ولابد من الاعتراف بأن هذه الموضوعات شائكة فكرياً واجتماعياً في مجتمع
يكاد يحبو في ساحة الفلسفة والفكر.
جريدة الاتحاد 29 ديسمبر 2008
موضوعات ذات علاقة:
الحداثة كحاجة دينية (النص
الكامل للكتاب)
تعقيبات على الكتاب
الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً
أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق