"الثقافة السياسية" فرع من علم السياسة ، جديد نسبيا. وهو ينطلق من سؤال: كيف ينظر الجمهور الى السلطة السياسية ، وكيف يفكرون فيها ويتعاملون معها. وبسبب حداثته فهو ما يزال غير محدد الأطراف ، اذ يتداخل مع علم الاجتماع في نواح ، ومع علم النفس في نواح أخرى. ولنفس السبب ، فان الباحثين الذين يشار اليهم كمتخصصين في هذا الحقل بالمعنى الدقيق ، قلة نادرة. وقد وجدت بعض الكتابات التي تخلط بينه وبين الوعي السياسي ، او بينه وبين المعرفة السياسية في معناها العام ، الأمر الذي يجعله مشوشا وقليل الجاذبية.
ما
الذي يجعل هذا الحقل مثيرا للاهتمام؟.
يرجع اهتمامي بهذا الموضوع الى زمن بعيد ، حين بدأت
التفكير في الأسباب التي جعلت مجتمعات بعينها ، أكثر
تقبلا للآراء الجديدة ، وأكثر لينا في التعامل مع أصحابها ، حتى لو ذهبوا
بعيدا جدا في اختلافهم مع التيار العام. كانت بداية تعليمي في مدارس دينية ، فترسخ
في ذهني ان العالم قسمة بين المؤمنين بالاديان والمعارضين لهم. خيل لي يومئذ ان كل
خلاف على أمور الدنيا ، مرجعه اختلاف العقيدة. لكن سرعان ما اتضح لي ان الخلاف في
العقيدة ، واحد من العوامل ، وليس أقواها ولا أكثرها تأثيرا. رأيت أشخاصا مؤمنين بالماركسية
وهم – في الوقت عينه - أصدقاء لرجال دين ، وطالما سمعتهم يخوضون نقاشات ساخنة ،
دون ان يفترقوا او تذهب المودة فيما بينهم.
ثم لفت نظري ان مجتمعات مختلفة ، تعتنق الدين والمذهب نفسه
، لكنها تتعامل مع السياسة بطرق متباينة: هذه تتفاعل معها وتسعى لخلق نقاط اتصال
مع رجال السياسة ، وتلك تميل الى اعتزالها وترتاب في من يطرق أبوابها او يعمل في
دوائرها.
في مطلع القرن العشرين ، ساد اعتقاد بين دارسي نظرية
التنمية ، فحواه ان كل مجتمع سيتقبل الحداثة فور ان يتعرض لتأثيرها. وتراوحت
مبررات هذا الاعتقاد ، بين القول بعقلانية الانسان وانه يتقبل كل ما يراه نافعا
لحياته ، وبين القول بأن المعتقدات التقليدية ليست قوية بما يكفي لاعاقة تقدم
الحداثة. لكن التجربة الفعلية في بلدان
عديدة ، من اليابان الى الصين وايران ومصر وتركيا والبرازيل وجنوب أوروبا وصولا
الى البرازيل ، أظهرت ان كلا من هذه المجتمعات ، لديه فهم متمايز لفكرة التقدم
والتعامل مع الدولة والسياسة ، فهم يؤثر على موقفه من مشروع الحداثة وتطبيقاته.
تبعا لتلك التجارب ، توصل الباحثون الى ما يشبه الاجماع
على ان التفكير السياسي لكل مجتمع ، نتاج لتجربته التاريخية ، وان طريقة التعبير
عنه ، صنيعة لواقعه الراهن ، فقد يميل للانفتاح ، فيسمح بتعدد الآراء ، او يميل للانغلاق
والأحادية.
اني أتأمل كل يوم تقريبا في ردود فعل الجمهور العربي على
الحوادث والاخبار ، طمعا في التوصل الى فهم معياري للأرضية الثقافية ، التي تنبعث
منها الأفعال والمواقف وردود الفعل عليها ، وتفاعلها مع التحولات الجارية في
المحيط ، أي مدى تاثرها بتلك التحولات وتاثيرها فيها. ما يهمني في المقام الأول هو
أفعال الناس وردود فعلهم ، وليس أفعال الدولة. وغايتي من هذا هي الإجابة على
السؤال المحوري في حقل الثقافة السياسية ، أي مدى قابلية المجتمع العربي للمشاركة
في الحياة السياسية.
ذكرت في مقالة سابقة انني
اميل الى التقسيم الثلاثي للثقافة السياسية ، بين انعزالية ومنفعلة ومشاركة. والواضح
اننا الآن في المرحلة الفاصلة بين الانفعال والمشاركة. في مرحلة الانفعال ، يشعر
الجمهور بالتأثير الحاسم للسياسة على حياته ، لكنه لا يرى نفسه قادرا على التأثير
فيها ، فيتلقى تاثيرها من دون رد فعل تقريبا. بينما في المرحلة الأخيرة ، يعزز
المجتمع وعيه بمستوى من الايمان (والمعرفة أحيانا) بان له دورا يؤديه في الحياة
السياسية ، وانه يمكن ان يكون مؤثرا ، قليلا ا و كثيرا.
الخميس - 20 صفَر 1447 هـ - 14 أغسطس 2025 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق