مر الان نحو 130 عاما
على وفاة كارل ماركس. ونعرف ان النموذج الايديولوجي الذي اقترحه كطريق للتطور
الاجتماعي لم يحقق نجاحا. كما لم يصمد اساسه الفلسفي أمام النقد العلمي ، رغم أنه
بقي نافذا في الاكاديميا الاوروبية حتى الربع الثالث من القرن العشرين.
من بين افكار ماركس التي تلفت الانتباه ، رؤيته عن تأثير المكائن والالات على ذهنية الاشخاص الذين يتعاملون معها. فهو يرى ان عمال المصانع اكثر قابلية للتطور والمساهمة في تنمية المجتمع ، لأنهم – حسب اعتقاده – اكثر التصاقا بتيار التطور في العالم ، الذي يتجلى في الآلات الصناعية. وهو يقارن هؤلاء العمال بنظرائهم الفلاحين المنعزلين عن تيار الحياة الحديثة.
قفزت الى ذهني هذه
الفكرة ، بينما كنت اقرأ مقالة للبروفسور كلاوس شواب ، رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي
عن "الثورة الصناعية الرابعة" ، التي يقول ان
تاثيرها لن يقتصر على تغيير نظام الحياة والعمل والعلاقات بين الاسواق ، فهي ستغير
ايضا كيفية تفكيرنا في الاشياء وفي انفسنا وعالمنا. ان الطريقة التي يتبعها
الانسان والادوات التي يستعملها كي يفكر في ذاته ومحيطه ، وعلاقته مع البشر الاخرين
، سوف تتنحى لصالح مفاهيم جديدة غير التي نعرفها اليوم.
يقرن شواب الثورة
الصناعية الاولى باعتماد المكينة البخارية في مجال النقل
والصناعة (ميكنة الانتاج). ويقرن الثانية بدخول الكهرباء التي ادت الى التحول
نحو الانتاج الواسع النطاق. كما ترتبط الثالثة بدخول تكنولوجيا المعلومات في
الحياة اليومية للبشر. أما الثورة الرابعة فأبرز ملامحها هو نفوذ التقنيات الرقمية
، الى أدق تفاصيل حياة البشر ، على نحو يقلص المسافة بين المادي
والرقمي والبيولوجي. بل ربما نشهد في العقد القادم اول نموذج (بروتوتايب) للتفاعل
المستقل بين الالة والكائنات الحية. ثمة كلام يدور حاليا عن ابحاث غرضها تمكين
الكمبيوتر من تلقي اوامر مباشرة من دماغ الانسان ، وهذا يشكل خطوة مهمة في الاتجاه
المذكور.
رؤية شواب هذه تطابق
– ضمنيا – رؤية ماركس ، في معنى ان "أداة" الفهم تسهم في تحديد نطاق
التفكير واتجاهاته ، مثلما يسهم الميكروسكوب في تحديد طريقة البحث عن الفيروسات ،
ويسهم بالتالي في تحديد نتائج البحث. فهم الاشياء في عصر انترنت الاشياء (القادم) سيعتمد على ادوات
مختلفة كليا عن تلك التي اعتمدت في عصر المحرك البخاري. حين نحتاج للتفكير في اي
مسألة ، في هذه الايام ، فاننا نقف على ساحل بحر من المعلومات والبيانات والصور ،
التي لم يكن اي منها متوفرا لاسلافنا الماضين. وبعد عقد او اثنين ، سيحصل احفادنا
على فرص اوسع كثرا مما نتخيله اليوم.
هذه البيانات ليست
مجرد كميات اضافية ، قياسا بما توفر للاسلاف ، بل هي ايضا فلسفة مختلفة ، وطريقة
تفكير وعلاقة بين الذات والغير ، متباينة. ان عالما باكمله قد زال مع ظهور مكائن
الاحتراق الداخلي ، وزال عالم ثان مع ظهور الجيل الثاني من الهواتف الذكية. بمعنى
ان بعض ما كان الانسان يفكر فيه قد زال ، او انتقل الى الهامش ، وظهرت نطاقات
تفكير جديدة.
الذهنية المتولدة عن
التفكير في محيط محدود ، تختلف كثيرا عن تلك الذهنية التي تطورت في محيط مفتوح
وسريع التفاعل مع العالم المحيط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق